. . . في ليلة من الليالي الشديدة القمر، الغائبة النجم، القاتمة السواد، الشديدة الحلوكة، قام طيف يخترق وحشة الليل، يسير بخطوات هادئة يتحسس طريقه على الأرض الحزون، يضرب فيها أخماساً لأسداس، ممسكاً بيده قيثارة قد أوتارها من نياط قلبه، وأنامله تلاعب هذه الأوتار بعزف يكشف رويداً غشاوة ما كان راكداً في أعماق النفس، وراسباً في قرارة القلب، من ذكرى الماضي الحافل التي طواها الزمن، وكان يشدو معها بالغناء بصوت رقيق حنون، تسبح موجاته مع تموجات الأثير تهدهدها طياته، وينقلها الهواء من شاطئ إلى شاطئ، ومن ضفة إلى ضفة، حتى ملأ أجواء الشرق بنغماته، وعبقت منه رائحة الأبدية وعبير الأزل.
أخذ الصوت يقول: تعالي إي قيثارتي نرتل لحناً نعيد به المجد البالي! تعالي نغرد أناشيد الصباح لعل الفجر يبدد الدجى! تعالي نتغنى بألحان السحر فتتحول الأرض القاحلة إلى حقول معشبة، والسهل الأجرد إلى سهول مخصبة! تعالي يا قيثارتي نوقظ النهار من غفلته والنفوس من نومها العميق! تعالي نرسل أنغامنا في سمج الدجى فتتحول السماء السوداء إلى قبة تسطع فيها النجوم وتتلألأ فيها الكواكب.
ظل هذا الصوت يشدو، وهذه القيثارة تجيب، حتى تمزقت حواشي الليل، وآذنت ساعاته بالفناء، وإذا بالفجر يبدو مشرقا وضاحاً، وإذا بواكير الصباح تكشف عن نهار مشرق وضاح جميل، وما لبثت السماء حتى تقشعت عنها الغيوم وتبدد عنها السحاب، فبدت بلونها اللاوزردي الجميل، وتربعت الشمس على عرشها، وأشرقت من أفقها ساطعة بنورها الوهاج على الجبال والأودية، وهي مشتعلة متأججة، وأخذت أشعتها تتفرق في السهول وعادت إلى الأرض حياتها، وإلى الزهر رونقه وبهاؤه، وإلى الزرع اخضراره وجماله.
فقالت الأزهار يخاطب بعضها بعضا: انظري يا أختاه إلى هذا النور المنبثق من السماء! انظري! ما هذا الضياء المشع؟ أليس هو نور (اليقظة) يسطع من سماء شرقنا المحبوب؟ وقالت الأشجار لبعضها: ألا تعلمين يا صديقتي أن أغصاننا كادت تتحول إلى أعواد يابسة يعصف بها الشتاء، لولا تلك النغمة المقدسة التي أرسلتها اليقظة من سماء مصر فأعادت لنا