رأينا في المقال السابق كيف راح ابن شهيد يتهكم بالأدباء الذين غمطوه فضله حقداً عليه، وحطوا من قدره حسداً له، وقد أبدى ابن شهيد - وهو بسبيل الكلام على أدب هؤلاء الأدباء - كثيراً من الآراء في النقد والبيان هي أهم وأقوى ما اشتملت عليه التوابع والزوابع، بل هي أهم وأقوى ما لابن شهيد من الآثار الأدبية، حتى من شعره على عذوبته، ومن نثره على ملاحته، فنحن بلا خلاف لا نعتقده الناقد الأول بين النقاد الأقدمين في الأدب العربي، ولكنا بلا خلاف لا نعتبره الشاعر الأول، ولا الكاتب الأول. ولما كانت هذه الآراء قد جاءت متناثرة في الرسالة، رأينا من الخير أن نجمع شتاتها وأن ننظمها في سمط واحد، حتى نتبين منها مذهب الرجل في النقد واضحاً جلياً. وإذا كانت هذه الآراء شابها شئ من حقد ابن شهيد وضغنه على معاصريه، إلا أنها آراء صحيحة ثابتة، تزداد على طول الزمن صحة وثبوتاً. وهذه الآراء في مجموعها تنقسم إلى شقين، شق يرجع إلى شخصية الأديب، وآخر يختص بالآثار الأدبية، وإنما نعنى بشخصية الأديب مواهبه العقلية واستعداده الفطري، وسعة معارفه، وهذه ناحية قد أبدع في بحثها ابن شهيد أيما إبداع، وله فيها آراء قوية لن يسبقه إليها ناقد فيما نعلم؛ فقد حاول أن يستخدم العلم والفلسفة في دراسة الشخصيات وتفهم الملكات الأدبية في الشخص، ومقدار استعداده وطبعه، والطبع - عند ابن شهيد - هو أهم ركن في شخصية الأديب، بل هو المرجع الذي يرجع إليه سر البلاغة. فمن كلامه:(إن البيان هبة إلهية لا علاقة لها بالنحو والصرف، واللغة والغريب، وإن الاختلافإلى الأساتيذ، والتوفر على الدرس والبحث في بطون الكتب، كل هذا لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية. وقد روي في ذلك أنه التقى في وادي الجن بشيطان أنف الناقة (وهو على علاته زي علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية) فأراد ابن شهيد أن يناوشه في اللغة والنحو، وطلب منه أن يطارحه كتاب الخليل وشرح ابن درستويه، فقال الشيطان: أنا أبو البيان، وقد علمنيه المؤدبون، قال ابن شهيد (ليس هو من شأنهم، وإنما هو من تعليم الله حيث يقول: الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان