وقد استمر إرياط يتوغل في اليمن بعد موت ذي نواس الحميري (فقتل ثلث رجالها وخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها فضبطها وأذلها، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبش، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فأنحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى إرياط (إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده) فقيل أبرهة، وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً وكان ذا دين في النصرانية؛ وخرج إليه إرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً، فرفع إرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يفوخه، فوقعت على جبهة أبرهة فشرمت حاجبيه وعينه وأنفه وشفته، فسمى أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتورة على إرياط فقتله، فملك أبرهة، ثم كتب إلى النجاشي:(أيها الملك إنما كان إرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه) فثبته النجاشي. ثم إن أبرهة بنى (العكيس) بصنعاء لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب إلى النجاشي:(إني قد بنيت لك كنيسة ولست بمنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب) فلاكت الألسن ذلك فقام رجل من بني فقيم: فخرج إلى العكيس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه) ولكن الفشل الذريع الذي منيت به هذه الحملة التي وقعت عام الفيل (سنة ٥٧٠م) لم يحرر بلاد اليمن في الحال من نير الأحباش، إذ أن ولدي أبرهة يكسوم ومسروق كانا عبئاً ثقيلاً على العرب ضجوا منه. وقام في ذلك الحين أحد أشراف حمير واسمه (سيف بن ذي يزن) مستحثاً الهمم، ولكن ضاعت دعوته إياهم أدراج الرياح.