أخذ (محمود) طريقه إلى بيته - بعد أن فارق فريداً - وهو يكاد يطير من شدة الفرح، يلقي التحية على من يقابله من إخوانه، ويريد تحياتهم بثغر باسم، ووجه باش، وصوت يشيع فيه السرور. . . وإن رأسه لميدان فسيح تتسابق فيه الأفكار حول المشروعات العمرانية والثقافية التي أراد أن يشق بها طريقه إلى الخلود والمجد، فسيكون أول مكشف يجلو عن جبين التاريخ الألباني العظيم ما غمض من حقيقة. وسيتسع بذلك أفق حياته، ويصبح إنساناً آخر غير محمود المدرس الذي خرج في صباح هذا اليوم إلى المدرسة يعمل جاهداً طول نهاره، ويعود متعباً مع الليل. سيصبح (مليونيراً) ترنو إليه العيون، وتشير إلية الأصابع، ويسير في ركابه الاحترام. وإنه لمشغول بهذه الأفكار إذ مر به صديقه فتحي ماشياً على حذر خشية أن تزلق رجله فيسقط في الوحل، ولقد اختلس النظر إلى محمود على ضوء الكهرباء التي أنارت الطريق، لكنه لم يخطر له على بال أن محموداً سيكون - بين عشية وضحاها - مذكوراً على كل لسان، وموضوع حديث كل إنسان، وأن اسمه سيتداول مع الأجيال المقبلة، لما وفق إلية من اكتشافات غيرت وجه التاريخ، وسجلته مع الخالدين. . .
إن المظاهر الخارجية قد تعتبر تعبيراً صادقا عما تنطوي عليه نفس الإنسان، من نعيم أو شقاء، أو حزن أو سرور؛ فإن فتحي قد رأى محموداً ولم يلحظ فيه التحول، وكذلك لم يلحظ فيه هذا التحول، وكذلك لم تلحظه أمه ولا أخواته الثلاث عندما جلس معهن على المائدٍة، ليؤنسهن، ويسامرهن، فقد تناول عشاءه في منزل فريد. ولقد رأيته أكثر سروراً منه في كل