كان التبشير والتجارة رائدي الاستعمار السياسي منذ اعتزم الغرب الطموح الإغارة على الشرق الغافل. وكان التبشير أشد الرائدين تدخلاً في شؤون الناس، وتغلغلاً في أصول المجتمع، لما تهيأ له من شتى الوسائل في التعليم والتطبيب والتمريض والاستشراق والخدمة العامة، فاستطاع أن يرهج بين الأمة المتحدة الغبار الخانق، ويزرع بين الملة الواحدة الزرع الخبيث، ويخلق في كل شعب من شعوب الشرق بالعصبية الدينية والتربية المذهبية قلةً حاقدة تعارض الكثرة في الرأي، وتخالفها في الهوى، وتغري بها الشر، وتمالئ عليها العدو، وتحاول أن تتحيز في السكن والعمل، وتتميز بالشعار والجنس، فلا تكون من قومها في دنيا ولا آخره
ليس التبشير بهذا المعنى ولهذا الغرض من ألسنة الدين ولا من سبل
الحق؛ فإن الدين مهما تعددت أسماؤه وغير فيه أبناؤه لا يزال في
حقيقته الحبل الذي يصل به الله من انقطع ويجمع عليه من تفرق. وإن
الحق مهما تفرقت سبله وتنوعت وسائله لا تزال له غاية واحدة يهتدي
إليها من ضل، ويتوافى عليها من تأخر. وإذن لا يكون هذا التبشير
القاطع المفرق إلا وسيلة من وسائل السياسة الماكرة، أو حيلة من حيل
العيش الرخيص
وأعجب العجب أن الدولة الديمقراطية الثلاث هي التي تحضن هذا النظام الطفيلي وتعوله وتقوده وتحميه. وكان أقرب الظن بها أن تنكره بعد ما أمكن الشرق من يده وخلى بينها وبين ميراثه؛ فإن السلام والوئام والحب هي التي تقرب إليها من تسوس، وتحفظ عليها ما تملك. وهؤلاء المبشرون الذين اضطرهم اليأس أو البؤس أو العجز إلى الاتجار بالدين والعيش على ضلالات العقول وحزازات النفوس وسفاهات الألسن، لا يستطيعون أن يبذروا غير الخلاف، ولا أن يحصدوا غير الضغينة