يتخذ الناس من عبر الحوادث مثلاً للكمال في الخلق وشعاراً يذكر بما ينبغي أن يسلكوه وما يجب التنزه عنه من عمل أو قول، ويكون لهم كاللواء يجمعون أمرهم حوله، وكالحكمة يسترشدون بهداها ورشدها، وكالحداء للركب يعينهم في قافلة الحياة، وكالرمز يرجعون إلى مدلوله في كل أمر حازب، وكالعماد يعتمدون على قوته وعونه، وكالإمام يأتمون به
وقد لا يستطيع المرء في كل حال من أحوال الحياة ألا يزايل شعاره، فقد تخونه نفسه أو تخونه الحوادث فيسلك مسلكاً لا يشاكل شعاره، ولكن المرء بخير إذا لم يمزق شعاره يأساً من أجل عجز عارض لا يلبث أن يزول؛ والمرء بخير أيضاً مهما تعددت سقطاته عن شعاره ومثله مادام له مثل يأتم به في فعله وقوله؛ وإذا كان اتباعه له في القول أكثر من أتباعه له في الفعل، فهذا أيضاً خير من ألا يكون له مثل يقدسه، وله نفسه أثر قل أو كثر
وفي الهجرة النبوية لنا مثل وشعار ورمز إذا اعتبرنا بأسبابها وحوادثها؛ وهو رمز ذو معنيين: معنى فيما ينبغي أن نتجنبه من مشابهة المشركين في اضطهاد الحق والعقيدة النفسية والفكرة التي تنبعث منها، ومعنى فيما ينبغي أن نتخلق به من الإتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم في إبائه مزايلة الحق وصونه، وفي نصرته بالرغم من اضطهاد وضيق، وفي الاعتماد على الله في الشدة
ولكل من المعنيين في الحياة شواهد وأمثلة وأمور تستدعي ذكرى الهجرة النبوية وذكرى حوادثها الجليلة
ولو استطعنا أن نذكرها في كل أمر من أمور الحياة كان ذكرها خيراً من ذكرها في تاريخ واحد معين، على ما في ذكرها في هذا التاريخ الواحد المعين من خير وفضل وحمد
أي الناس لا يضطهد الحق في أمور كثيرة من الأمور اليومية إذا كان في اضطهاده إياه كسباً ورزقاً، أو ثناء وحمداً، أو راحة ودعة، أو إرضاء عزيز، أو زلفى لدى كبير مسيطر محكم عليه؛ وحتى عند تخيل نيل الكسب غير المحقق نيله، وعند الأمل في الزلفى التي قد تخيب، يضطهد الناس الحق في أمور الحياة وروحهم روح المشركين ولفظهم لفظ المؤمنين. ثم هم قد يعدمون حتى لفظ المؤمنين فلا يكاد يكون لهم من الإيمان إلا اسمه.