حين قارب نيتشة الثلاثين كان كما قال في كتابيه زرادشت - وما وراء الخير والشر - قد مر بالمراحل التي مرت بها الإنسانية في تفكيرها، إذ كان قد عب بشراهة ونهم شديدين من الفنون والفلسفات قديمها وحديثها. وكان الفيلسوف في السن التي اتصل فيها بفاجنر أستاذاً في أرقى الجامعات الأوربية؛ فهو في صلته بالفنان رجل له مكانته الفكرية ومركزه الاجتماعي، لا شاب ناشئ كما يريد أن يصوره الأستاذ المعداوي منساقاً مع قول رومان رولان المتعصب لبيتهوفن كل التعصب حيث مجده في كتاب سماه بيتهوفن الخالق - وإن محاضرات الفيلسوف (الناشئ) ودراساته في تلك السن لا زالت أهم المراجع فيما عالجته من موضوعات - وقد كانت الفلسفة الإغريقية وعلى الأخص أفلاطون أهم الينابيع التي استقى منها نيتشة، إذ يصور نفسه في إحدى رسائله٣ إلى فاجنر في ذلك الحين جالساً بين عدد من كتب هذا الفيلسوف يكاد يحجبه عن الرائي - ولا أظنه بهذا يتملق الفنان أو يدّعي - أما في الفلسفة الحديثة قد تتلمذ على شوبنهاور حتى رفعه إلى الدرجة العليا التي رفع إليها فاجنر في عالم الفن. (انظر كتابيه - شوبنهاور المعلم - والفاجنرية الكاملة) وكان قد أستوعب أيضاً فلسفة ماركس وله عنها تنبؤات صدقت بشكل يدعو إلى الدهشة - إذ أن نيتشة هو الذي تنبأ في كتابه ما وراء الخير والشر لفلسفة ماركس بالذيوع، وعين بالذات الدولة التي ستحمل مشعلها وهي روسيا في وقت كان لا يتصور هذا أحد؛ لأن روسيا كانت ترزح تحت حكم القياصرة الحديدي - وقد صح ما تنبأ به نيتشة فاحتضنت روسيا الماركسية الألمانية وحملت مشعلها - وقد كان هذا العصر الذي ضم فاجنر وشوبنهاور ونيتشة يموج بأحداث جسام. فقد حدث أن اهتزت أوربا كلها لموجة فكرية عنيفة كان لها ما للقنبلة الذرية في عصرنا من وقع، بل ربما أكثر، فهذه جاءت في عصر ألف فيه الناس العجائب وكانت القنبلة منتظرة منذ سنوات.
أما ذلك الحدث الخطير فقد كان مفاجأة عنيفة. . . وذلك هو نظرية التطور لداروين ١٨٥٩ التي زلزلت الأفكار في أوروبا بل العالم طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولما أوشك نيتشة أن يكمل الحلقة الرابعة من عمره كانت نفسه تجيش أعظم جيشان عرفته نفس