مفكر. . . إن نفسه التي امتلأت بفلسفة الإرادة عند شوبتها وعالم المُثل عند أفلاطون وألهبتها روائع موسيقى فاجنر أخذت تنتفض انتفاضاً شديداً. . . إنها تتمحض عن مولد فجر جديد قد يغير مجرى التفكير الإنساني كله! وظل فكره في هذا الميلاد قرابة عقده الخامس. لقد بدأ داروين حبل الخليقة من الخلية إلى الإنسان فجاء نيتشة (حين أحس بأنه امتلأ كالنحلة التي ملّت حمل عسلها) وتهيأ للرسالة، فمد يده وتناول الحبل من داروين ليعبر به قنطرة الإنسان الحالي إلى السوبرمان. . . ومن هو السوبرمان؟! إنه الهدف الذي تسعى إليه البشرية في تطورها. . . (وكما صار الفرد بالنسبة إلى الإنسان فسيصير الإنسان بالنسبة إلى سوبرمان. . .)!
وهكذا خرج زرادشت نبي نيتشة بإنجيل دينه الجديد. دين السوبرمان الذي لا بد أن تصل إليه البشرية (في زعمه) محطمة في طريقها كل شيء يعوق هذا المسير فوجب إذن أن نتسلح بالقوة والعنف - وهكذا تطورت فلسفة الإرادة عند شوبنهاور إلى إرادة القوة عند نيتشة وسقط شوبنهاور المتشائم أمام سوبرمان نيتشة المتفائل وتحطم إ له المسيحية الشفوق الحنون بما فيه من مشابه من أفلاطون (ليست المسيحية إلا الفلسفة الأفلاطونية ختمت بخاتم إلهي) ٤ لأن الشفقة والحنان أخطر العوائق في طريق السوبرمان. . . وأصبحت موسيقى فاجنر التي كانت تحلق بنيتشة في سماء الفكر لا تستطيع اللحاق به في آفاق السوبرمان.
وهكذا هوت الآلهة من سمائها في نظر نيتشة تلك الآلهة التي طالما قرب إليها قرابين العبادة وتسابيح العبودية. . ومن أفلاطون الآن؟ ومن شوبنهاور؟ ومن فاجنر؟ بل من هو الشعب الألماني كله الذي رماه نيتشة بأقسى النعوت؟ كل هذا لا شيء ما دام لا يؤمن بالسوبرمان. . . وهل للقرود (الإنسان الحالي) قيمة في نظر السوبرمان؟ هذه قصة تحطيم نيتشة لآلهته الأولى. . . قد يكون هناك بعض الأسباب التي عجلت بعضها قبل الآخر كزوجة فاجنر مثلا إن كان حقاَ لها كل هذا الأثر، ولكن التحطيم كان آتياً لا محالة. فهذا هو حكم التطور في عقلية الفيلسوف الذي بينا خطوطه البارزة بقدر ما تطيقه عجالة في مقالة. . .
ويؤسفني بعد هذا أن أناقش الأستاذ المعداوي في التوافه التي وقف عندها كل الوقوف