زود الله الشعب العربي المجيد بصفتين كريمتين لعلهما لم يتوفرا في أي شعب آخر بمقدار توافرهما لديه: إحداهما شدة التعلق بالوطن الأصلي؛ والأخرى شدة الميل إلى التنقل والهجرة، وشاءت قدرة البارئ الحكيم - وقد كرم هذا الشعب، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، وخصه في سلم الرقي الاجتماعي واللغوي بأمور تعد من قبيل المعجزات - أن يخصه بمعجزة أخرى في ميوله النفسية، فزوده بهذين الميلين المتضادين المتنافرين (التعلق بالوطن والميل إلى الهجرة)، ولكنه ألف بينهما في نفوس أفراده، فأصبحا بنعمته منسجمين تمام الانسجام، يشد كلاهما أزر الآخر ويكمل نقصه ويخفف من غلوائه.
فما كان العربي لتنسيه هجرته حقوق وطنه الأول، ولا لتنال من مكانته عنده، أو تنقص من حبه له أو حنينه إليه. وما كان تعلقه بوطنه الأول ليحول بينه وبين الهجرة منه إذا كان في هجرته رفع لشأن بلاده، أو توسيع لرقعة ملكها، أو مد لنفوذها وسلطانها، أو تخفيف من أعبائها، أو دفاع عن مذهب يقتنع به، أو فرار من ضيم أصابه، أو ابتغاء للرزق، أو سعي لبغية المكارم والمجد. وفي هذا يقول الشنفري شاعرهم الجاهلي.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ... سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
ويقول أدباء العرب أن أقذع ذم وجه إلى عربي هو قول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر ويناضل عن بغيض بن لأي:
أما حبهم لأوطانهم الأولى، وشدة حنينهم إليها، فلا أدل على ذلك من حنين الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة بعد هجرته منها، مع أن أهلها قد أخرجوه منها وساموه وشيعته سوء العذاب، ومع أنه قد كان في هجرته منها نشر للإسلام وتوطيد لدعائمه. فقد روى أن أصيلا الغفاري قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب؛ فقالت له عائشة:(كيف تركت مكة؟)؛ فقال: (اخضرت جنباتها، وابيضت