عفا الله عن كتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح، ويبعثوا حربا من غير جند!! حلا لبعضهم ذات يوم أن يكون بيزنطيا يجادل في الدجاجة والبيضة وأيتهما أصل الأخرى! فقال على هذا القياس: أفرعونيون نحن أم عرب؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيهما على العربية؟! نعم قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أُعطى أزمةَّ النفوس وأعنة الأهواء يقول لها كوني فرعونية فتكون! أو كوني عربية فتكون! ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدال وساسة الكلام فبسطوه في المقالات، وأيدوه بالمناظرات، ورددوه في المحادثات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وان ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مِسلات والمساجد معابد والكنائس هياكل والعلماء كهنة.
مهلاً بنو قومنا لا تعتدوا بشهوة الجدل على الحق ورويدا بني عمنا لا تسيئوا بقسوة الظن إلى القرابة أن الأصول والأنساب عرضة للزمن والطبيعة؛ تواشج بينها القرون وتفعل فيها الأجواء حتى يصبح تحليلها وتمييزها وراء العلم وفوق الطاقة. فاذا قلنا فلان عربي أو فرنسي أو تركي فإنما نعنى بهذا النسبة انطباعه بالخصائص الثقافية والاجتماعية لهذا الشعب كاللغة والأدب والأخلاق والهوى والدين فبديع الزمان عربي وأصله فارسي وروسو فرنسي أصله سويسري والأمير فلان تركي وأصله مصري لان كلا من هؤلاء الثلاثة اصبح جزء من شعبه ينطق بلسانه ويفكر بعقله ويشعر بقلبه فبأي شيء من هذا يتمارى إخواننا الجدليون وهم لو كشفوا في أنفسهم عن مصادر الفكر ومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأوا الروح العربية تشرق في قلوبهم دينا وتسري في دمائهم أدبا وتجري على ألسنتهم لغة وتفيض في عواطفهم كرامة. لا نريد أن نحاجهم بما قرره المحدثون من العلماء من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية فان هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع فيه الجدل:. . وكفى بالواقع المشهود دليلا وحجة هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرنا وثلثا من التأريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. . . وذلك هو ماضي مصر الحي الذي يصبح في الدم ويثور في الأعصاب ويدفع بالحاضر إلى المستقبل ثابت الأساس شامخ الذرى عزيز الدعائم.
أزهقوا أن استطعتم هذه الروح وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي ثم انظروا ما يبقى في يد