للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفلسفة الشرقية]

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- ١٣ -

البوذية

لما كانت البوذية ثانية الديانتين الجوهريتين في بلاد الهند، فقد كان من الطبيعي - وقد بدأنا بالبراهمة - أن نثني بها محاولين إيضاح غوامضها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن ينبغي لنا قبل الدخول في تفاصيل هذا المذهب أن نلم بشيء مما حواه لنا التاريخ الغامض عن حياة المنشئ العظيم لهذه الديانة الخطيرة التي لعبت في تاريخ الإنسانية دوراً من أهم الأدوار. وإليك هذا الموجز المضطرب من حياة هذا الزعيم الديني الكبير

ولد (جوتا ما سيرهارتها) في (كابيلا فاستو) على حدود (نيبال) حوالي سنة ٥٦٠ قبل المسيح من أسرة نبيلة، إذ كان والده رئيس قبيلة (ساكيا). ولما شب زهد في نعمة والده وأخذ هذا الزهد يزداد شيئاً ًفشيئا حتى إذا بلغ من نفسه منتهاه ألقى بالحلل الفاخرة جانباً واستبدلها بثياب خشنة مرقعة ثم هجر منزل أسرته إلى الغابات والأحراش لا يلوي على شيء من مظاهر النعمة التي كانت تحدق به إحداق السوار بالمعصم، لأنه آمن بأن مصدر جميع هذه الآلام التي تكتظ بها الحياة البشرية إنما هو الهوى المنبعث من الشهوات الجسمانية، وأن المخلص الوحيد من هذا السجن المطبق إنما هو في التلاشي المادي، وهذا التلاشي لا يتحقق إلا بالزهادة والتخلي عن جميع ملاذ الحياة وشهواتها. وقد أيقن كذلك بأن اللذائذ المادية ستار من الظلام يحجب عن النفس كل معرفة حقة، فالوسيلة الوحيدة إذاً، للتخلص من الألم ولتحقيق المعرفة هي الزهادة في المادة من جميع نواحيها.

لم تكد هذه العقيدة تستولي على نفسه حتى بدأ في تحقيقها، فانسلخ عن كل مظاهر الترف وأنسحب عن المدينة إلى إحدى الغابات الموحشة، فآوى فيها إلى شجرة كبيرة اتخذ ظلالها الوارفة مقامه، ثم أخذ يحاسب نفسه على ما قدمه من خير وشر حيناً، ويتأمل في أسرار

<<  <  ج:
ص:  >  >>