للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مذكراتي اليومية:]

قصة فتاة. .

- ٤ -

يوم الخميس ١٠ مايو سنة ١٩٤٥

كانت الساعة خمساً بالتمام حين دخلت محلي جروبي الجديد أبحث عن الآنسة (س)؛ وكانت العلامة التي سأتعرفها بها أن أجد نسخة من (الرسالة) على المنضدة التي تجلس إليها. ولكن ماذا أصنع والناس قد فروا من وهج الحر في قلب المكان فتكونوا حول الموائد في حواشيه مماشيه فلا يجد المار طريقه بين المقاعد إلا بصعوبة، والربع الزاهر المعطار قد خلع من حلله وحلاه على الأشخاص والأشياء، فالجو عطر والمنظر سحر والأزياء وشى والنساء ورود والرجال أشواك والأحاديث أغاريد، فلا أستطيع لشيوع الجمال وعموم الحسن أن أعرف صورة من صورة، ولا أن أميز زهرة من زهرة!

لو كنت حديد البصر لنفضت المكان من بعيد، فعرفت على أي منضدة تنام (الرسالة)، وفي أي كرسي تقعد الفتاة؛ ولكن البصر كليل والمساء مقبل، فلا مناص من الجولان المتهم بالفضول، ولا بد من النظر القريب من اللمس. على أنني توخيت المناضد المفردة فجعلت وجهي إليها ونظري عليها، فلم أخط غير قليل حتى رأيت منضدة صغيرة عليها يدان رقيقتان تقلبان (الرسالة)، فكنت في خروجي برؤيتها من ربكة المشي وحيرة النظر أشبه بالزورق العامه في ظلام المحيط أبصر في المرفأ ومض المنارة، أو بالسائر التائه في مجاهل القفر سمع في الواحة نبض الحياة.

أقبلت عليها فاستقبلتني واقفة كما يستقبل النساء الرجال في الريف، ومدت يدها إلي فتصافحنا باسمين، وجلسنا متقابلين، وكلانا يصعد النظر في الآخر ويصوبه، ويوازن في نفسه بين ما تصوره في الخيال بذهنه، وبين ما رآه في الحقيقة بعينه. أما هي فلم أدر ماذا كنت في خاطرها من قبل، وماذا أنا في ناظرها الآن. وربما حملني العجب المضمر في كل نفس أن أسألها عن ذلك في مؤتنف الحديث. وأما أنا فقد كنت موزع النفس والحس بين صورتين تختلفان في الذات كل الاختلاف، وتتشابهان في المعنى بعض التشابه: فتاة العزبة في نفسي كزنبقة الروضة المطلولة، بضة الجسم، لدنة القوام، مطهمة الوجه، قد نظرت

<<  <  ج:
ص:  >  >>