يتعين علينا قبل الدخول في تصميم الموضوع أن نشير إلى نقطتين أو حقيقتين مقررتين ثابتتين:
تطور اللغات:
الحقيقة الأولى أن اللغات - وهي مظهر النطق أو صورته في مختلف الجماعات والبيئات الإنسانية - لم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها تنشأ وتتطور شأن كل ما في الكون من جمادات ونباتات وحيوانات (بما فيها الإنسان) طبقا لنواميس النشوء والتطور. فمنذ أفي سنة لم يكن للغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية مثلا أثر من الوجود. فكيف نشأت ووجدت؟ لما فتح الرومان باقي أقاليم إيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا والبرتغال انتشرت لغتهم اللاتينية في تلك البلاد وكانوا هم الفاتحون الأقوياء كما أنهم كانوا أرقى من السكان الأصليين في المدنية والشرائع والعلوم والفنون، لذلك لم تلبث اللاتينية حتى تغلبت على اللغات المحلية وحلت محلها جرياً على نواميس الانتخاب الطبيعي وما يترتب عليها من انهزام الضعيف وبقاء الأصلح. ولكنها (أي اللاتينية) تطورت بدورها في كل بلد منها تطوراً مختلفاً باختلاف كل من تلك البيئات الجديدة فتحولت شيئاً فشيئاً في فرنسا إلى الفرنسية وفي إيطاليا إلى الإيطالية وفي إسبانيا إلى الإسبانية وهكذا.
وكما أن الصور أو الحلقات المتوسطة بين الحيوانات والنباتات الحديثة وبين الأنواع القديمة التي تسلسلت منها موجودة وقد كشف عن الكثير منها متحجراً في طبقات الأرض التي تكونت في مختلف الأعصر الجيولوجية القديمة، كذلك الحلقات المتوسطة بين اللغات الحديثة وبين جداتها التي تسلسلت منها، وأعني بها المؤلفات التي وضعت بتلك اللغات في الأعصر المتعاقبة ووصل إلينا الكثير منها. فلغة الكتب والرسائل الفرنسية التي وضعت في القرن العاشر مثلا أو الثاني عشر قريبة من اللاتينية ومن مزيج من اللغات الأصلية