دعاني الرجال الأكرمون إلى أن ألقي كلمة موضوعها (موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية) ولقد نظرت في هذا الموضوع فوجدت أنه لابد لي من أن أقف وقفة قصيرة عند الفكر العربي أتبين ما معناه، وأن أقف وقفة قصيرة، عند المدنية الغربية أتعرف ما مبناها
الفكر العربي:
أما عن الفكر العربي فإني أنظر إلى العرب والمستعربين جملة فأجدهم يسكنون رقعة من الأرض خطيرة، وهي على خطرها رقعة واسعة تمتد من الأطلسي إلى إيران، ومن تركيا إلى ما يقارب خط الاستواء. وأنظر إلى العرب فأجدهم أمما متباينة الخطوط من التقدم، مختلفة الأنصبة من الحضارة أيا كانت هذه، مختلفة قرونها التي تعيش فيها، فبعضها يعيش في القرن العشرين ويكاد يعيش فيمل بعده، وبعضها يعيش في القرن العاشر، بل في القرن الأول، بل فيما قبل القرون. وأنظر في هذه الأمم فرادى، فأجد في الكثير منها رأسا أطل على هذا العصر الحاضر يرى ما فيه، ويعلم ظواهره ويعلم خوافيه؛ أما سائر الجسم فلا عين له، فهو يتبع الرأس كما تتبع الأحسام، وقد سهل الأمر على الأجسام أ، تتبع لو أن الرأس رأس واحد يتجه إلى غاية واحدة، ولكنه رأس ذو شعب، رأس تشعب إلى رؤوس، منها ما ينظر إلى الوراء فلا يرى من الدنيا شيئاً خيرا من ورائها، ومنها ما ينظر إلى الأمام فلا يرى من الدنيا شيئا خيرا من أمامها، ومنها ما ينظر إلى الوراء ويفضل أن يقعد فوق السور يستمتع بموكب الزمان الجاري.
فأي رأس من هذه الرؤوس يتمثل فيه الفكر العربي الذي يراد لي أن أتحدث عنه.!
أم يراد لي أن أتحدث عن الفكر العربي متمثلا في كتابه؟ فهؤلاء على قلتهم، كأرؤس في أممهم، صنوف وأهواء. منهم المتأثر بالماضي غاية التأثر، ومنهم المتحرر من الماضي غاية التحرر، ومنهم أوساط بين هؤلاء وهؤلاء. وليس في التأثر بالماضي ما يعيب، لأن الماضي بعضنا، ولأنه بعض الحذر، ولأنه الحفاظ الذي فيه بعض الوفاء. والفكر في كل العصور أمزجة، منها المزاج المتحفظ. والفكر على إطلاقه لا يكاد يتحرر أبدا. أنه عمل العقل ولكن تتنازعه القلوب. إن الفكر لا يكاد يخلو من عاطفة، والعاطفة وليدة السنين