تجتاز المسألة الفلسطينية الآن دورا دقيقا حاسما؛ فهي الآن قيد البحث والدرس من جانب السياسة البريطانية، والسياسة البريطانية تحاول هذه المرة أن تضع لحلها تسوية دائمة يقبلها العرب واليهود معا؛ ومنذ أن احتلت بريطانيا العظمى فلسطين، وصدر عهد بلفور لليهودية بجعلها وطنا قوميا لليهود، أعني منذ عشرين عاما، لم توفق السياسة البريطانية إلى تحقيق السكينة والسلام في فلسطين؛ ذلك لأن النظام الغريب الذي ابتدعته السياسة الاستعمارية لهذه البلاد العربية لم يكن طبيعيا يرجى له البقاء، فهو فضلا عن كونه يقضي بتمزيقها إلى شطرين هما فلسطين وشرق الأردن، فانه أيضاً يقضي بجعلها، وهي البلاد الإسلامية العربية، وطنا قوميا لليهود من جميع أنحاء العالم؛ وقد كان حلم اليهودية منذ أواخر القرن الماضي أن تستعمر فلسطين، وأن تحقق باستعمارها أمنية العودة إلى أرض الميعاد وإحياء مملكة إسرائيل بعد أن دثرت منذ آلفي عام؛ فلما أسفرت تطورات الحرب الكبرى عن قيام الحكومة البريطانية بإصدار عهدها بتعضيد إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فتحت فلسطين على مصراعيها لتلقى الهجرة اليهودية من سائر الأنحاء، ولم تمض أعوام قلائل حتى طغى هذا السيل الجارف على فلسطين، واستأثرت اليهودية بمعظم مرافقها الاقتصادية، وشهد العرب في فزع وروع بلادهم تتحول بسرعة إلى مستعمرة يهودية يكادون يصبحون فيها غرباء عن أوطانهم؛ ومع أن اليهود ما زالوا من الوجهة العددية أقلية (فهم اليوم نحو أربعمائة ألف مقابل نحو ثمانمائة ألف من العرب) فانهم من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هم ذوو النصيب الراجح في شئون فلسطين وفي مرافقها وثرواتها، تعضدهم السياسة الإنكليزية وترجح رأيهم ومصالحهم.
هذا الوضع الشاذ لمصاير الفلسطينية لم يكن يرجى له البقاء، ولم يرتضه العرب منذ الساعة الأولى بل قاوموه بكل قواهم، وثارت فلسطين العربية غير مرة في وجه هذا الاعتداء الصارخ على حقوقها القومية والتاريخية، وأسمعت صوتها للسياسة البريطانية وللعالم كله، وكان العام الماضي مشهد فصل رائع من ذلك النضال الجلد المؤثر الذي