حركة بعد سكون، ونشاط بعد خمود، وإشراق بعد عبوس، وبشر بعد قطوب؛ وجود بعد بخل، وسخاء بعد شح، وبذل بعد ضن؛ تلك هي حال إقليم الدقهلية وحاضرته (المنصورة) في الأسابيع الماضية، لما استفاضت الأنباء بأن الدكتور طه حسين باشا سيزور هذا الإقليم ليبث فيه العلم وينشر منه العرفان. ولقد كنت ترى الناس جميعا في القرى والمدن لا يجري على ألسنتهم غير اسم طه حسين، ولا يتحدثون إلا عن علم طه حسين، ولا يشيدون إلا بفضل طه حسين
ولم يكن هذا الانقلاب الذي شمل الحياة والناس في هذه الأيام الطيبة، لأن وزير المعارف سيزورهم، أو لأنه سيأتيهم ليفتتح معاهد للعلم في بلادهم! فهذا شيء قد ألفوه من قبل كثيرا وأصبحوا لا يهتمون به، ولا يلتفتون إليه. وكم من وزير قد زارهم وأحيطت زيارته بضجيج المظاهرات، وعجيج الهتافات؛ مما لا يهز إلا الهواء ولا يخط إلا على الماء، ولا يبقي له أثر في الأرض ولا في السماء
ولكن هذا الانقلاب قد كان لأن الذي سيزورهم، ويشرف بلادهم هو الدكتور طه حسين، ذلك الرجل العجيب في علمه وإرادته، وفي عزمه وفي ثورته، والذي إذا أردت أن تجمل وصفه قلت صادقا - بفراء تخشى معارضا - إنه قوة متحركة جبارة، لا تني ولا تضعف ولا تخشى في العلم أحدا
جاء ديارهم - لا ليفتتح - كغيره - مدارس للعلم وهو لا يدري شيئا فيها ولا هم له إلا أن يمر عليها أو يشاهد مظاهرها ثم ينقلب مسرعاً من حيث أتى! لا يذر وراءه أثرا، ولا يترك بعده ذكرا - وإنما جاءهم يمثل عصا موسى ففجر الخزائن المصونة، واستخرج الأموال المدفونة، وألان القلوب القاسية، وعصر النفوس العاتية، ليشيد الآثار الخالدة من المعاهد العلمية والكليات الجامعية، وينفخ فيها من روحه لكي تبقى على وجه الدهر، وتؤتى ثمرها في كل عصر. ومعاهد العلم كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. وهل أبقى على وجه الأرض من أماكن العلم وأثبت من صروح العرفان؟