للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إلى مؤتمر الفردوسي]

١ - بين القاهرة وطوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

أطوى حديث السفر بين القاهرة وبغداد، فقد وصفت هذه المراحل من قبل في الكلام عن سفرتي إلى مدينة العباسين، وليس في هذه المراحل من جديد إلا السيارات الضخام التي تعبر بادية الشام بين المدينتين الخالدتين: دمشق وبغداد. أعدت شركات عربية، وأخرى أوربية، سيارات كباراً تسع واحدتها أكثر من عشرين راكباً في مقاعد وثيرة، تريح المسافر صاحياً وتمكنه من الإغفاء حتى يغلبه النوم. ركبنا إحدى هذه السيارات، ففصلنا من دمشق صبيحة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة (الخامس والعشرين من سبتمبر سنة ١٩٣٤) وبلغنا بغداد والساعة تسع من صباح الأربعاء بعد سفر ستة وعشرين ساعة

فهذه بغداد العظيمة في جمالها وكبريائها، تزدحم فيها حادثات التاريخ أكثر من ازدحام أهلها، وتزخر فيها ذكرى الماضي أعظم من زخور دجلتها. والله بغداد، ما يستقر بها فكر زائرها حتى يحلق في أرجاء العصور، وثنايا التاريخ أمداً بعيداً. فما يفتأ البصر يترامى بين الرصافة والكرخ، يبتغي أن يقع على موكب من مواكب الخلفاء، أو مجلس من مجالس العلماء، أو حفل للأدباء والشعراء. ففي كل نظرة ذكرى خليفة، وفي كل فكرة حديث فيلسوف أو عالم أو شاعر

ثم يقع الفكر وقوع الطائر بعد طول التدويم، فيستريح من بغداد الحاضرة إلى أمة قد أخذت للمجد أهبتها، وأعدت للعظائم عدتها، وعرفت بين الأمم غايتها، وشقت بين الخطوب سبيلها. فسارت في مواقع من الهمة القعساء، والعزة الشماء. تحدوها عزة إسلامية، وأنفة عربية. قد آلت لتسيرن سيرتها حتى تبلغ غايتها. وسير الله يمينها، ويعنو الزمان لأمرها.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة ... إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

ذلكم ماضٍ مجيد يمد حاضراً مجيداً، ذلكم تاريخ يتدفق من قمم المجد الشاهقة في مجرى العزمات الماضية، إلى المستقبل الوضاء. ومن ذا يصد السيل إذا هدر، أو من ذا يرد على الله القدر؟ بل من يسلسل البحر بأمواجه، ويرد الحر الأبي عن منهاجه؟ سلام يا دار

<<  <  ج:
ص:  >  >>