ذلك إجمال القول في الفن الصناعي المرتجَل؛ أما الصناعي المنقول فالسر فيه أن يبعث في ذهنك فكرتين: عن الطبيعة المقلَّدة، وفكرة عن الفنان المقلِّد. فتماثيل فِدْ وصور رفائيل، تجمع بين الجمالين: جمال المثال في أصله، الفن في تقليده. وكذلك في وصف مغرب الشمس لابن نجد الإعجاب الناشئ عن القوة والوفرة والذكاء موزعاً الصورة الناطقة التي أبدعتها الطبيعة، وبين المحاكاة الصورية التي أخرجتها القريحة.
إن روعة الجمال الطبيعي آتية من ناحية الحرية في الطبيعة وحرية الطبيعة هي قانونها العام، لا تقوم عظمتها إلا به، ولا فخامتها إلا فيه؛ فالغيضة اللّفّاء أجل مظهراً في النفس من الحياة المنمنمة، وشلالات النيل أجمل منظراً في العين من النوافير المنضمة لأن الجمال المطلق يملأ خيالك بالتأمل الحالم، وذهنك بالتفكير الرفيع، وشعورك بالطرب الباسط؛ ومظنة العبودية في الجمال أو في الجماد تضيف إليه معنى من الحقارة والقبح يحطه ويشوهه. ولكن الجمال الصناعي لا بدَ أن يتقيد بالقواعد ويتحدد بالأصول؛ فإذا لم يكن الفنان من البراعة بحيث يخفي تلك القيود، ويحجب هذه الحدود، ويظهر السمة الدالة على الطبع المرسل والإلهام الحر، همدت في فنه الحياة، وخبا في جماله السحر، وضاقت في عمله الفكرة.
ليس الجمال في الفن المعنوي أو الحسي أن تحاكي الطبيعة محاكاة الصدى، وتمثلها تمثيل المرآة، وتنقلها نقل الآلة؛ تلك هي التبعية التي تنفي الذكاء، والعبودية التي تسلب القوة؛ إنما عظمة الفن أن يفوق الطبيعة؛ وإنما براعة الفنان أن يزيد في ترتيب صورها بالذكاء، وفي تنويع تفاصيلها بالوفرة، وفي توجيه مقاصدها بالعظمة، وفي بيان تعبيرها بالحياة، وفي سلطان تأثيرها بالقوة، وفي حقيقة وقائعها بالسحر الموهم والوشي الخادع.
انظر إلى تعاجيب الطبيعة وتهاويل الفلك، من العواصف والصواعق والبراكين، تجدها في ذاتها جليلة رائعة، ولكنك تجدها في فن الشعراء والمصورين والمثَّالين أجل وأروع. لقد فيها شهوات النفوس، وسلطوا عليها تصادم الأهواء، وصوروها للأذهان في عالم من الآلهة الكَمَلَةِ في قواها المختلفة، تتنافس في العجائب، وتتصارع بالأهوال، وتتفانى على اللذة.