وسحر الفن الإغريقي في صمته وفي نطقه قائم على تجميل الظواهر المروعة في الطبيعة، بالنوازع المتضاربة في النفس.
ومن المعلوم في بدائه العقل أن يكون ما يقلده الفنان في الطبيعة حقيقاً بالتقليد، حتى يمكن الجمع بين جمال الشيء في أصله، وبين جماله في نقله؛ فالمصور الذي يرسم وضعاً من أوضاع الرأس، أو معنى من معاني الوجه، أو لوناً من ألوان الحياة، يكون أسمى في الفن من المصور الذي يتحامل على براعته حتى يصور أرنباً تكاد من دقة التقليد أن تلحظ وثبته وتعد وبره. والشاعر الذي يصف عاطفة من عواطف القلب، أو ظاهرة من ظواهر الكون، يكون أبلغ في فنه من الشاعر الذي يجهد قريحته في وصف حادثة من هَنَوات الحوادث لا تقوم في ذاتها على فائدة ولا لذة.
قد يكون الشيء المنقول في حقيقته قبيحاً، ولكن صدق التعبير عنه، ودقة التصوير فيه، والتماس المنفعة منه، تجعل تقليده جميلاً، كالوجه الشتيم يرسمه المصور المبدع بريشته، والخلق الذميم يصوره الشاعر المفلق بقلمه؛ والملهاة المسرحية موضوعها رذائل الناس ونقائص المجتمع، ولكنها ارتفعت إلى أوج الفن الجميل بتحليلها العميق، وتصويرها الدقيق، وغايتها النبيلة. كذلك الحوادث المؤلمة والمناظر المحزنة والمواقف المؤثرة ليس فيها من الجمال شئ. ولكن استبطان الفنان لدخيلة البائس، وتصويره الفاجعة ماثلة مثول الواقع، وإعانته الحقيقة على التأثير بالجمل النفاذة، والصور الأخاذة، والظلال الرهيبة، يجعل تقليدها من أجمل الأشياء، ويضع المأساة من الفن موضع الواسطة من العقد.
فأنت ترى أن التقليد لا يثير الإعجاب في نفسك، ولا يُشيع اللذة في شعورك، إلا باعتماده على الفن؛ والفن لا يتحقق جماله إلا بالعظمة في عمله، والسعة في وسائله، والحكمة في غايته؛ فإذا قلدت أصوات الطبيعة من غير تأليف ولا تنسيق ولا معنى، وأقمت شلالاً من الماء والحجر تضارع به شلال أسوان، وسردت بالكلام الموزون حادثة عادية من حوادث اليوم، أخطأك الفن وانزوى عنك الجمال؛ لأنك صغرت الطبيعة، وحقرت الواقع، وتعلقت بالتافه، واستعنت بالمادة، من غير قوة ولا ثروة ولا علة. ولو أنك رحت تستقري مفاتن الجمال في الطبيعة، أو في الفن، أو في الأثر الذي ينشأ من ائتلاف الطبيعة والفن، لما وجدتها في غير ما يعلن القوة والوفرة والذكاء مجتمعة أو متفرقة.