كان يوريبيدز شذوذاً كبيراً في العصر الذي كان يعيش فيه. . . لقد كان ثورة جامحة هدامة لا تدع شيئاً إلا أتت عليه، ولا ترى شيئاً يقدسه الناس إلا سخرت منه واستهزأت به وتهكمت عليه. . . وكانت سخريته مع ذاك لاذعة ضارية لا يهمها أن تكون وحدها في جانب وكل أعدائها وهم جمهور الأثينيين أو كثرتهم الساحقة في جانب أخر
وكان الناس حزبين في يوريبيدز: كثرة محافظة من الرعاع ورجال السياسة والتجار يسوؤها أن تهان آلهتها وتستباح تقاليدها فهي ضده وهي تكرهه وهي تنقم عليه وتهزأ به وتسخر منه كما يسخر منها، ولكن على طريقتها البورجوازية في السخرية والاستهزاء. . . وكانت مع ذاك تتخذه هُزُواً وتجري وراء أرستوفان كيما يضحكها عليه، ويؤلف لها المهازل في ثلبه والطعن عليه والتشهير به وتسفيهه ونهش عرضه وإرسال لسانه في أبيه وفي أمه على السواء. . . وقلة مستنيرة مثقفة كانت تعرف ليوريبيدز حقه، وكانت تؤمن بأنه صاحب رسالة عالية ستعود بالخير الجزيل على الإنسانية في كل زمان ومكان، وستظل مَعيناً نَميراً سائغاً يقبل عليه الظماء فيروون منه ويعالجون آلامهم ويلتذون فيه الأدب والفن والفكر والجمال والعبقرية
لكن هذه القلة كانت تخشى الرعاع الناقمين على يوريبيدز، وحق لها أن تخشاهم لأنهم ليسوا رعاعاً جَهَلة مثل رعاعنا، بل كانوا رعاعاً متعلمين، لأنه لم يكن في أثينا في عصر يوريبيدز رجل واحد غير متعلم!
كانت هذه القلة إذن لا تستطيع أن تنفع يوريبيدز العظيم، لأن الرعاع الذين يؤلفون كثرة الجمهور الأثيني وجدوا لهم شاعراً آخر لا يقل عبقرية عن يوريبيدز، لكنه شاعر جامد مغلق التفكير محافظ أشد المحافظة على تراث السلف، فكان يؤلف كوميدياته في الطعن على شاعر القلة المهذبة المستنيرة والنيل منه والإزراء بأدبه وتفكيره، وكان يجد جمهوراً