القطعة الأدبية التي أبعث بها اليوم إليك لتنشر على صفحات مجلتك الراقية، استوحيتها من السلسلة الأدبية الأولى التي ينشرها تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم في الرسالة تحت عنوان (من برجنا العاجي).
وقد كتبتها يوم كنت في حلوان أنعم بجو هذه المدينة الساحرة وأنفس عن صدري بنشق أرج النسيم المعطر بعبير الزهر المتدلية عناقيده وباقاته في روضات حدائقها النضرة، فأشعر بأثر الصحة يتغلغل بين جوانب هذا الصدر قوياً حاراً يبعث فيه السرور والبهجة والنشاط. ولا غرو فان اسعد أيام حياتي الذاتية هي تلك التي قضيتها على شاطئ وحدة هذه المدينة الفاتنة تحت بواسق نخيلها وفي ظل صمتها وسكونها.
كتبتها يومئذ ثم حالت شواغلي دون نشرها فطاويتها بين أوراقي إلى أن عثرت عليها اليوم بينما كنت اقلب في هذه الأوراق، فرأيت أن أرسلها إليك لتنشرها في (رسالة) الفن العالي والأدب الصادق الحي، ولو أن نشرها سيجيء متأخراً.
لو علم الناس كيف يعيش كل أديب أو مفكر في هذا الوجود، ولو علموا نوع الحياة التي يقضيها هذا الأديب أو ذاك المفكر مرتبكا حائراً بين متناقضات تتركب منها نفسه، لكفوا عن توجيه الملام إليه، ولا اقتصروا عن نعته بمختلف النعوت والصفات التي لا تنطبق البتة على حقيقته مكتفين بالإقرار أن نفسه غير نفوسهم، وان إحساسه لأبعد غوراً وأعمق نفاذاً من إحساسهم؛ ولكن يظهر أن الحياة التي منحهم إياها القدر حين شيعهم إلى باب الوجود قائلاً لهم: اذهبوا فان لكم الحياة ولكن. . . قد غشت أبصارهم بغشاوة الجهل فلم يدركوا مغزى (لكن) هذه التي يخفى باطنها وينم على معان كثيرة فاتهم إدراكها، كما فاتهم أيضاً رؤية البسمة الساخرة التي ارتسمت على ثغرة الهازئ المتهكم ساعة شيعهم إلى باب الوجود! فما علموا أن القدر منحهم أشياء وسلبهم شيئاً هو أعظم أشياء الدنيا وأغلاها قيمة! وما دروا أن القدر حرمهم نعمة لا يبلغ قمتها العالية سوى من ذاق مرارة الألم التي يولدها