سوف لا تضحك يا قارئي من هذا الذي أكتب، بل إنك ستتحمس مع القوم انقلبوا جميعا على الرغم مما كانوا فيه من ألم وعذاب وضعف من أكبر المتحمسين. وحسبك أن تعلم بادئ الأمر أني أنا الذي طالما تفكهت بكل من يتحمس وضحكت ملء نفسي قد بت في الحماسة أشد الناس أجمعين!
هذا شاب يضطجع على سرير، بيده مجلة ينظر فيها وقد لمح منظاري على غلافها بعض الصور المغرقة في المجون والفتنة، وبجانبه مذياع لا يبتعد عن إذنه إلا بقدر ما بين عينيه والمجلة، والمذياع يرسل صوته كما لو كان في مقهى من أشد المقاهي جلبة وصخبا، وصاحبنا يقرأ ويسمع ويمتع بالجمال العاري ناظريها حرمه الله منهما ولا حرمه من ظرفه وأناقته وحسن ذوقه - كما يمتع بالموسيقى واللحن الصاخب أذنيه.
ولعلك تقول وماذا في ذلك من غرابة؟ وماذا فيه من بواعث التحمس حتى تستعدي عليه القراء على هذا النحو؟ ألا فاعلم رعاك الله ورقاك السوء وجنبك وإيانا مواطن التحمس إن هذا الشاب الظريف كان يضطجع على سريرة في أحد المستشفيات، أي والله في مستشفى يحيط به في الحجرات المجاورة مرضى منهم من يتلوى على سريرة من فرط ما به، ومنهم من يطلب غفوة تنقذه من عذابه، ومنهم من اشتد به الصداع حتى أذهله عما بقى من صوابه، ومنهم من يتراءى له شبح الموت في كل شئ، ومنهم من يطلب الهدوء حتى ليتضجر من وقع أقدام ممرضته أو من مجرد فتحها باب غرفته وإنها لتنتقل كما ينتقل الخيال في الحلم!
والمذياع يجلجل صوته بكل ما هب وما دب، وقد أحضره هذا المريض الظريف، شفاه الله، من بيته، وكانت حجرته لسوء حظ هؤلاء المساكين من حوله في مفرق الطرق من ممرات المستشفى، وكان بابها مفتوحاً إلى آخر ما ينفتح، كما كان صوت مذياعه بالغا في الارتفاع آخر ما يمكن أن يرتفع.
وضج المرضى أو ضج من يستطيع منهم أن يحتج، أما الذين برحت بهم الأوصاب فكانوا يتململون من هذا الطرب المفاجئ الذي نزل بهم فإذا هو يضاف إلى ما يلاقون من ألوان