لقد قتل الناس مسألة الهجرة النبوية بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فأنا لا أريد أن أكتب على غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات
والذي أريد أن أكتب هو هجرة الأنبياء الذين غبروا قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ليس بدعا من الرسل عليهم الصلاة والسلام
أول الرسل الكرام هجرة هو نوح عليه السلام فكانت هجرته حياة له وهلاكا لأعدائه
دعا نوح قومه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلى أن ضاق صدره بما يلاقي منهم، ولم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا منفذاً لنصحهم إلا قصده، ولم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له:(ما نرك إلا بشراً مثلنا؛ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي؛ وما نرى لكم علينا من فضل؛ بل نظنكم كاذبين) فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف على ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنى، ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم على الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجر بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجره من الله، ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدى والاستقامة على الجادة، وأن علم ما في أنفسهم عند الله لا عنده إلى أن ضاق بالقوم وضاقوا به. فقالوا له ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ودعا نوح عليهم فقال:(رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحى إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجروا بها عنهم
صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم