لما ظهر كتابي (وحي القلم) حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم ليقرءوه ويكتبوا عنه. وأنا رجل ليس فيَّ أكثر مما فيَّ، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع. فما أعلم في طبيعتي موضعاً للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكاناً من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهذي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم؛ وإما إنذار حرب لغير هؤلاء
والقرآن نفسه قد أثبت الله فيه أقوال من عابوه ليدلل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقر بها ويقلبها؛ فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار. والشعور بالحق لا يخرس أبداً، فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال لا أو نعم صدق فيهما، وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة، إذ يكون شعوراً بالحق يغطيه غرض آخر كالحس ونحوه، فإن قال لا أو نعم كذب فيهما جميعاً
وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالً يسألني به المكان: لماذا لم تجيء؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريِّض ومتأدب ناشيء، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافياً لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع. . .
وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمَّت نقصت، إذ كان مدار الأمر على اعتبار أكثر من يقرءونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين. وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية، فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ. . . وما بدُّ أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها. فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد. لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها. ثم هي عمل الساعة واليوم فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان