لفح وجهه نسيم الفجر البارد، فهم بأن يقوم إلى النافذة فيغلقها ويعود إلى سريره، ثم تخاذل واسترخى، ولبث مستلقياً، فسمع أصواتاً غريبة، خيل إليه أنها أصوات الوحوش، أو أحاديث الجن، فجمد من الخوف، وحدق فيما حوله، فرأى كأنما هو نائم في أرض الشارع، وعلى جانبيه أبنية فخمة عالية، مربعة ومستديرة، والوحوش تطل عليه من أعاليها، تصرخ صراخاً مرعباً، فاستعاذ بالله من هذا الحلم - وتقلب في فراشه، وألقى بيده على طرف السرير، فأحس كأن قد وخزته إبرة، أو كأن حية لدغته، فقفز مذعوراً. وإذا هي بالحقيقة لا الحلم، وإذا حيال يده نبت من نبت الصحراء، قصير شائك يقال له القتاد. . . كانت تضرب به الأمثال، وإذا هو في البادية، في (خور حمار) وإذا هي الرحلة تمتد به ثلاثة عشر يوماً، وهو لا يزال دون (العلا)، ولا يزال بينه وبين المدينة جبال وصحاري تسير فيها السيارة أياماً
فجلس يذكر ما رأى في هذه الرحلة من ألوان العذاب، وأشكال الخوف، وما مر به من مشاق وصعاب أبصر فيها الموت عياناً، ويئس فيها من النجاة. . . . وذكر أنهم طالما تمنوا الموت لما وجدوا من العذاب، وأنهم طالما سلكوا من شعاب تقوم فيها السيارة وتقعد، ولا تنجو من شدة إلا إلى أشد منها، وطالما ساروا في رمال كانت تغوص فيها السيارة إلى المرقاة فيدفعونها دفعاً، ويمدون لها الخشب على الأرض مداً، وطالما صعدوا جبالاً يعجز صعودها الماشي على رجليه، فكانوا يجرون السيارة بالحبال، وطالما هبطوا أودية لا يهبطها ممثلو الروايات الأمريكية. . . وأنهم ساروا ألفاً وثلثمائة كيل في أرض لم تطأها قط سيارة. . .
وأنهم سلكوا بين تبوك والعلا مسلكا في جبال الطلع، ساروا فيه بالسيارة من ضحوة اليوم إلى عصر الغد، فلم يقطعوا من الطريق خمسة عشر كيلاً. . . وكانوا يدورون فيه كما دار بنو إسرائيل في التيه. يمشون ما يمشون ثم يعودون من حيث جاءوا، وجبال المطلع جبال عظيمة غريبة الشكل، ليست سلاسل، ولكنها آكام عالية، وجبال منفردة، عالية الذرى محددة القمم، تشبه ذراها رءوس المآذن وهام البروج، لها منظر جميل فتان، فيه هيبة،