ذلك هو يوم الجمعة ٢٧ يناير، الذي انتقلت فيه بغداد كلها، استقرت في شارع الرشيد، فينشئ المجد الجديد، على أساس المجد التليد. . . وقد أتى الناس من كل فج عميق، ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبنائهم أسوداً صغاراً، أشبالاً، يدافعون عن الحمى، ويحمون العرين. . . ويبصروا ببصائرهم الآتي المجيد، والمستقبل الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان، التي تبرق بريق الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الموتى، ويصب الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهز البنادق، تقول بلسان حالها: إنا نحقق ما نقول!
مرحى يا فتيان العراق، عشتم للعروبة، وسلمتم للسلام!
أقبل الناس على شارع الرشيد، قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملئوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن، وشرفات المنازل والفنادق، حتى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار، ولا ترى في الشرفة مقعداً، ولا على رصيف مكاناً، وتعلق الناس بالأعمدة، وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كانت الطبيعة متهللة باسمة في هذا اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة، والأنس في الأرض وفي السماء. . .
وأنتظر الناس ساعات، لا يملون ولا يضجرون. . .
وكنت في غرفتي في (الأعظمية) أهم بالنزول إلى بغداد، ثم يردعني خوف الزحام، وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللج البشري الهائل. . . وكنت أنظر في ركام الكراسات التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كل تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والحماقات، لأموت بتصحيحها، وتقدير درجاتها، فلا أمسها، ولا أدنو منها، وإنما أنصرف عنها أفكر في بلدي وأهلي. . .
أأنا أهجع آمنا في بغداد، وآنس مطمئناً، وأهلي في دمشق يمشون على النار، ولا يدرون أإلى موت أم حياة؟ أأستمتع بالجمال، وأتذوّق الحب، وأنفق الأماسيّ الهادئة، في مسارب الأعظمية، أساير (الشط) وأتفيأ ظلال النخيل والشام قد ثار من تحتها البركان وزلزلت منه