الأركان وهب أهله هبّة المستميت، يريدون الحياة كاملة، أو الموت صرفا زعافا؟ فكرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد، وما أدراك اليوم ما بغداد؟
بلغت (الباب المعظم) وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً، فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها في بعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى الميدان، فوقفت حائراَ لا أتقدم ولا أتأخر. وطال بي الوقوف، وخشيت أن أبقى كذلك إلى المساء، فتشددت وقلت: ويحك يا نفسي! لماذا الجبن؟ وعلام التأخر؟ ولماذا كنت تدفعينني إلى أن أمارس ألوان الرياضة، إذا كنت لا تستطيعين النجاة في مثل هذا اليوم العصيب؟ وظننت نفسي قد اشتدت، فشمرت عن ساعديّ وأقبلت أدفع هذا، وأزيح ذاك؛ وكلما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيست من النجاة، واعترفت لنفسي باني لم أبلغ بعد مبلغ عنتر (عنتر القصة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الآخر فيقتل الاثنين. . . فوقفت فاشتد على الضغط من كل جانب، حتى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نفسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلا أن فرج الله عني فبعث رجلاً من رجال الشرطة أعرفه فحملني إلى الفندق الذي أريد. . .
وكان في شرفة الفندق سعادة القائد البطل فوزي القاوقجي وأخي الشاعر أنور العطار في جماعة، فحللت فيهم، ولبثنا ننتظر الموكب، ونتحدث عن الفتوة في العراق، ونستمع إلى أحاديث فوزي وهي للأديب كنز لا ينفذ. . . وأشهد أن في العراق فتوة وشباباً، وأنه شعب عرف طريق الحياة فسلكه.
ولقد رأيت من مظاهر الفتوة في بغداد ما جعلني أبكي من فرط التأثر! رأيت في بغداد طفلاً يدرج على باب منزله، لم يتعلق المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند، ويوعز إيعاز القائد: يس. يم. يسرى. يمنى. . .
رأيت في بغداد أطفال المدارس الأبتدائية، يسيرون سير الجنود. يقودهم مدرس بلباس ضابط، يدربهم على فنون القتال وذهبت مع الطلاب إلى معسكر الإنكليز في (سن الذبان) لمباراة رياضية. فرأيتهم قد قبلوا المدينة الإنكليزية
إلى حي من أحياء العرب، وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوتهم، فقلت: تبارك الله! إذا