قرأت الرد، ومرة أخرى أتأمل ما بيمينك. هذه العصا عجيبة التركيب، إنك لا تلمس شيئاً حتى ينقلب إلى الحق، حق كبير يبتلع كل رأي، ويلقف كل حجة. تلك عصا الأستاذية. ما كنت اجهل أنك حاملها في هذا العصر. نحن متفقان. ولا خلاف بيننا في الغاية. وهو مطلبنا. هنالك تفاصيل افترق فيها عن الدكتور ولن أعود اليها. فأنا أفزع من النظر إلى الوراء، خشية أن أتحول إلى تمثال من الملح، أو حتى إلى تمثال من الذهب. نفسي تصدف أحيانا عن الفكرة الجامدة مهما تكن خالدة، ويحلو لي أحيانا أن انثر الأفكار عابثا من نافذة قطار. أن رسائلنا في حقيقتها لا تعني أكثر من إثارة الغبار في أرض ناعمة مفروشة بالحصى. لسنا نصدر أحكاما بهذه الكتب السريعة. إنما نحن نطرح مسائل ونلقى بفروض سوف يلتقطها ويجمعها الباحثون المنقطعون يوم تستيقظ الأجيال. اتفقنا إذن. أو ينبغي لنا أن نتفق على أي حال، حتى ننصرف إلى شيء جديد. أن البحث عن الجديد هو الخليق عندي بالمجهود. ولقد فتح لنا اليوم باب الجديد الأستاذ احمد أمين. قال لي ذات مساء أنه يضع كتابا في أصول النقد، ويود أن يوليني شرف المشاركة في البحث من بعض وجوهه. النقد؟ لفظ رن في أذني. وذكرت للفور أن رسالتي الأولى للدكتور كان موضوعها (الخلق). وقلت في نفسي ما يمنع من إتمام الكلام في رسالة ثانية يكون موضوعها (النقد) وإذا الأمر ينكشف لي عن قضية كبيرة: أنعد النقد كالخلق خاضعا لسلطان التيارات الفكرية الثلاثة التي ذكرها الدكتور: التيار المصري القديم، والتيار العربي، والتيار الأوربي؟ أم نعد النقد كالعلم لا يخضع لمثل هذه المؤثرات؟ أما أنا فلن أجيب عن فوري عن هذا السؤال. فأنا أكتب ولا أدري أين يحط بي القلم. دعني أولا أنشئ على هذا النغم بعض (تقاسيم) دون أن أعني الآن بالغاية. أن الغاية أحيانا رخيصة بجانب الوسيلة على الأقل في نظر الفن. لأن الغاية في الفن لا تبرر الوسيلة. الحياة كذلك، تلك القطعة الفنية التي أبدعها الخالق، أهي شيء غير وسيلة متينة التكوين؟ ألها معنى في غير ذلك الطريق المبين الذي أوله ضباب وآخره ضباب؟ خط هندسي رسم على لوح الوجود، كيف أبتدأ، كيف انتهى؟ لا يعنى ذلك