كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم يتقون - كما علمت - كثرة الحديث عن النبي (ص) بل كانوا يرغبون عن رواية أحاديثه، إذ كانوا يعلمون أن النبي (ص) قد نهى عن كتابة حديثه وأنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي على وجهه الصحيح، لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، ولا تستطيع أن تحافظ على ما يبقى منه فيها على أصله، - مهما تحرى الإنسان الضبط - وأنهم إذا حدثوا بما سمعوا على وجهه، وكانت الذاكرة قد أمسكته وحافظت عليه كما هو، لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص، أو الغلط أو التبديل أو التحريف، إما لعدم ضبط الذاكرة أو لسوء الفهم أو لغير ذلك، وهم بما حملوا من أصول الدين وفروعه كاملا عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضى به بعضهم ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم من (رواية الحديث بالمعنى) لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وأحاديث الرسول ليست كأحاديث غيره، وإنما هي أحكام أو بيان للأحكام. والحكم - وبخاصة في الحلال والحرام إنما يكون بنص قاطع وخبر متوارد قد جاء على حقيقته بلفظه ومعناه.
وقد بلغ من تحرجهم في رواية الحديث أنهم كانوا يتشددون في قبول الرواية من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة على انه سمعه من الرسول (ص) وقد وضع بعمله هذا - أول شروط علم الرواية - وهو شرط الإسناد الصحيح، قال الذهبي في ترجمته (إنه أول من احتاط في قبول الأخبار).
روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا؛ ثم سأل الناس. فقام المغيرة فقال: كان رسول الله يعطيهم السدس. فقال: هل معك أحد يشهد! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر. هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا.
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (وكان عمر شديدا على من أكثر الرواية أو أتى