حقاً لقد صدق الذي قال:(إن الإرادة الحازمة لا تعرف المستحيل) فمن ذا يصدق أني أكتب هذا المقال بعد انتصاف الليل بساعات قضيتها أرقاً أفكر في الناس والمجتمع وكيف أن الغش والكذب والمخادعة هي الأصناف الرائجة بل هي الوحيدة التي يتجر فيها تجار السياسة وسماسرة الأحزاب والمضاربون في سوق المنافع والفرص (الذهبية). كان رأسي مملوءاً بالخواطر المغلقة والصور تحتشد أمامي، والحقائق تندفع من وراء مخابئها تهتك أسرار مجرمي الجمعية التي أعيش ويعيش فيها ملاين من أبناء وطني مقيدين بأغلال الفقر الأسود الذي فرضه علينا دجالو السياسة والاجتماع والاقتصاد، حتى لم أعد أطيق البقاء في فراشي فنهضت أعالج ضوء مصباحي الخافت ففشلت في جعله صالحاً للكتابة فيه، وعدت أفتش عن قلم أسطر فيه خواطري اليقظة فلا أجد غير بقية لا تصلح، وليس لي مكتب أجلس إليه، وكلها عقبات كفيلة أن تثني رجلاً في مثل حالي عن الكتابة. فلست من المبرزين في رجال المجتمع حتى تتهافت الصحف على كتاباتي، ولا أنا ممن أوتوا حظاً من المال أذلل به عقبات النشر، وليس لي بين الصحفيين أصدقاء يهتمون بأفكاري حق الاهتمام، ومع ذلك أجد يدي قد امتدت إلى المصباح فوضعته قرب الوسادة، وظفري قد نبش القشرة الخشبية حتى ظهر سن القلم إذ لا سلاح لدي، ثم أنبطح على الفراش والورقة أمامي كما ينبطح الجندي في ساحة القتال. كل هذا من أجل من؟ أللناس أكتب أم لنفسي؟ وهل كان يجدر بي أن أكتب هذه المقدمة لو أنني كنت فيما أكتبه للناس مخلصاً؟ هكذا قلت لنفسي:
على أية حال لقد تبينت في نفسي رغبة خفية للكتابة، والناس أسرار. ألا ترى أننا نحب دائماً أن نسمع رأي الناس فينا؟ ومع ذلك نكره منهم النقد ولو كانوا في نقدهم محقين؟ بل أكثر من ذلك نحب أن نطلع على خبايا نفوسنا عند دعاة العلم بالغيب ممن يفتحون (الكتاب) ويضربون (الرمل) ويقرؤون في الكف الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً، ونحن نعلم أنهم يرجمون بالغيب؟ أليست كل هذه الشعوذات عناصر أكذوبة ضخمة جازت