للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين الشك والإيمان]

الشاعر الإنجليزي بيرون

(١٧٨٨ - ١٨٢٤)

للأستاذ خليل هنداوي

روح هائمة ونفس معذبة طغى عليها الشك في جميع أدوارها، فارتعشت واضطربت وجدفت، وما تجديفها إلا صدى تلك الحرقة الملتهبة في قلب الشاعر الذي يريد أن يزيح ذلك الغطاء عن الحقيقة المحتجبة.

قضى الشاعر طفولته الأولى حراً لا تقرعه عصا الأبوة، لأنه نشأ تحت رعاية أم كثيرة الإشفاق عليه، دخل المدرسة وشيطان الشعر والفن أخذ يوسوس له ويقويه وهو لما يلبس أردية الشباب، فأنفق أيامه يزجي الفراغ متسلياً بالنظم لاهياً بالطرب. وفي هذا العمر الزاهي تسرب إليهالشك ودعاه زهوه إلى الجحود، فجحد باليوم الآخر وحطم قيود التقاليد. ولكن سرعان ما أعياه التفكر في حقائق الوجود وكم أعيت من قبله؛ فتعب من نفسه وهو الرقيق النفس، وتعب من الناس وهو ذو الروح الشاعر.

هجر وطنه وفي خلال هذه الهجرة بدأ ينظم مقطوعته الخالدة (طواف شيلد هارولد)

ومن هو هارولد؟ (هارولد عرفه الناس شر من جاور الناس، يعيش مستقلاً عنهم مزهواً بيأسه، يعرف كيف يتلمس الحياة في زوايا نفسه. كذلك الكلداني الذي أرسل عينيه في النجوم، وما زال يحدق فيها حتى أسكن نجومها المضيئة كائنات مثلها مضيئة، فإذا استطاع أن يرقى بنفسه في هذا الأوج كان سعيداً، ولكن الطين الذي جبل منه يثقل عليه، وتراه - وهو الراغب في النور الساطع - يبتغي أن يهدم السد الذي يحول بيننا وبين السماء، تلك السماء التي تتفتح لنا في أعاليها عوالم مضيئة. وأنه لهائم في منازل بني الإنسان يغلب عليه القلق ويزعجه التعب؛ مظلم النفس كثير الهم كاسف اللون كالصقر المهيض الجناح لا يجد له وطناً إلا الفضاء الفسيح، فيأخذه هيمان يسلبه عقله، فهو يريد إنقاذه منه، فيهيج ويدأب كالطائر الذي يقرع قضبان قفصه فيصبغ كساءه بدمائه، ونفسه السجينة المضطرمة

<<  <  ج:
ص:  >  >>