للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أخذت ترتشف هذه الدماء، دماء قلبه. . .)

فأي فتى يتوارى وراء هذه الأبيات؟ هل هو غير الشاعر؟ وكل من قدر له أن يتذوق ما وراءها من يأس ومرارة يحس أن الشاعر لا يستطيع أن يخرج عن نفسه، لأنه يستمد كل عوامل نظمه من نفسه، فلندعه يخلق الأشخاص ويولد الأبطال. فلن ترى وراء هؤلاء كلهم ناطقاً غير الشاعر، ولا قانطاً غير الشاعر، فهو ذلك الفتى النبيل الذي غامر في ملذاته حتى عاده السأم، والسأم داء يقتل في المسرات كما يقتل في الأشجان، فتراه يهجر عالم الإنسان كالمسحور (هائماً وراء أحلام مظلمة، يخنقه السرور ويهفو إلى الشقاء والحزن لأنه يجد فيهما مروحاً عن نفسه، مغادراً وطنه، حاملاً معه إلى المواطن التي وطئها - وهي الأنس ومرابع النزهة - فكرته التي تسعى وراءه كأنها شيطان لاحق به).

عرج على الأندلس ونزل في (أثينا) مدينة الفلسفة، وهنالك استفزته هذه المشاهد التي تحمل طياتها التراث الفكري الذي استلمه الحاضر من الغابر. وهذه المشاهد هي التي أوحت إلى (رينان) صلاته الخالدة، وفجرت في قلب (شاتوبريان)

ينابيع العاطفة والتصور. هنالك وقف (بيرون) إزاء هذه الآلهة المتناثرة على الحضيض، فسخر من الإله الموجود والإله المفقود.

يا أبن يوم واحد! انهض وأدن مني. . . .

أنظر إلى هذا المكان. . . هو وطن شعب، ومأوى آلهة تبعثرت هياكلهم.

الآلهة نفسها تتلاشى، ولكل شريعة أجلها. . .!

بالأمس ساد (جوبيتر) واليوم يسود (محمد) والعصور الآتية ستتخذ لها من مذاهب القوم مذهباً حتى يجيء عصر يجد فيه الإنسان أن ما يضرمه من بخور ويهدره من أضاحي يذهب عبثاً!

أيها الولد الحقير! يا قذفة الشك والموت! يا من يتوكأ رجاؤه على أقدام من قصب. . . .!)

وقف الشاعر إزاء (البريتون) وتحت قبته المنقوبة فرحب بالعدم وجعل عصره خير عصر لنا وغده خير غد لنا. فقال: (هاهنا قبة العقل، هاهنا مأوى النفس. كل ما كتبه القديسون والسفسطائيون والعقلاء، أقادر على أن يعمر هذا الجوب المنعزل؟ ألا إن الراحة تنتظرنا على شواطئ (الأشيرون). هنالك لا يكره الذي شبع من الحياة على أن يستوي على هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>