وكنا في النَّديِّ ثلاثة: أنا وأ. ش وس. ع؛ وقد هيَّأت تدبيراً تَوافَقْنا عليه لتحريك هذين المجنونين وتدوين ما يجئ منهما. فلما أقبلا تحفَّينا بهما وألْطَفْنَاهما، وقمنا ثلاثتُنا ببسطهما وإكرامِهما، حتى حسبا أن في كلمة (مجنون) معنى كلمة أمير أو أميرة. . . . . ورأيت في عيني (نابغة القرن العشرين) - وهو أعْيَنُ أنجَل - ما لو ترجمتُه لما كانت العبارةُ عنه إلا أنه يعتقد أن له نفساً أنثى أعشقها أنا. . . . فكان مُسَدَّدا فكِهِ اللسان تُسْتَملَحُ له النادرة وتُستظرف منه الحركة.
ولما تمكن منه الغرور واحتاج الجنون كما يحتاج الجمال إلى كبريائه إذا حاطته الأعين - أدار بَصره في المكان ثم قال: أُفٍ لكم ولما تصبرون عليه من هذا الندىَّ في ضوضائه ورعاعه وغوغائه. إن هؤلاء إلا أخلاطُ وأوشابُ وحثالة. هذا الجالس هناك. هذا الواقف هنالك. هذا المستوفِز. هذان المتقابلان. هؤلاء المتجمعون. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. ما هي؟ ما هي؟
هذا التصايح المنكر. هذا الصرب بحجارة النرد. هذه الزحمة التي انغمسنا فيها. هذا المكان الهائج من حولنا. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. هي، هي، هي.
فانزعج المجنون الآخر، ووقع في تهاويل خياله. ونظر إلينا تدور عيناه، وتوجَّس شراً، ثم زاغ بصره إلى الباب، واستْوفَزَ وجمع نفسَه للقيام؛ فلما رأى صاحبه ما نزل به، قهْقه وأمعن في الضحك وقال: إنما خوَّفتُه الصبيان والضرب ليثبت لكم أنه مجنون. . .
فَحردَ الآخر واغتاظ وجعل يتمتم بينه وبين نفسه.
قال (النابغة) ما كلامٌ تطن به طنينَ الذبابة أيها الخبيث؟
قال:(مما حفظناه) أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلَّفَ، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق. . كما فعلت أنت الساعة تقول هاء، هوء، هيء. . .
فتغير وجه (النابغة)، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه وقال: أيها المجنون. لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون. . . لا نجوت إن نجوت مني.
فأسرع أ. ش. وأمسك به واعترض من دونه س. ع. وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم.