قال: ولكن ويحه كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلا هذا كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق وقد أوْحدَهُ الله في القرن العشرين؟ لهممْتُ والله أن أكسر الذي فيه عيناه فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين.
قلتُ: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه، ففي الحديث الشريف: ليس من أحد إلا وفيه حَمْقَةٌ، فبها يعيش. والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيماً عاقلاً؛ وما يُقبِلُ الإنسان على شئ من لذتها إلا وهو مقبل على شئ من حماقاته؛ وأمتع اللذات ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة. أليس يخيَّل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضرٌ فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خُلقت في كوكب وهبطت إلى كوكبنا هذا، فما فيك له ولا فيه لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع؟ قال: بلى.
قلت: فهذا القليل هو الحمْقَةُ التي تعيش، وهي أرضية الأرض فيك. أو سماوية السماء فبعيدةٌ لا تحتملها طبيعة الأرض. ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذين غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوساً أو محوّلاً أو معدولاً به. ولعل هذا أصحَُ تفسير للحديث الشريف: أكثر أهلِ الجنةِ البُله.
قال المجنون الآخر:(مما حفظناه) أكثر أهل الجنة البُله.
فقال (النابغة): المصيبة فيك أنك أنت هو أنت. ألا فلتعلم أنك من بلهاء البيمارستان لا من بُلْه الجنة.
قلت: ثم إن الموت لا بد آت على الناس جميعاً فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا ويُلحق من نال بمن لم ينل؛ فمنذا الذي يُسرُّ بأن ينال ما لا يبقى له إلا أن يكون سروره من حماقته؛ ومنذ الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له إلا أن يكون حزنه حماقة أخرى؟ وأي شئ في الحب بعد أن ينقضي الحبُّ إلا أنه كان حماقةً ضربت في الحواس كلها حتى ملأت النفس؛ ثم ملأت النفس حتى فاضت على الزمن. ثم فاضت على الزمن حتى خبَّلت العاشق تخبيلاً لذيذاً تصغر فيه الأشياء وتكبر ويجعل الواقع في النفس غير الواقع في دنياها؟ يُشبِّه كلُّ عاشقٍ حبيبته بالقمر: فهب القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه