النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرف، وقد هجم رمضان على الناس بلا هواده، فجفف الحلوق وطوى البطون، وأخذنا نتلمس الليل فلا نكاد نظفر به لقصر مدته، وسرعة دورته، وكم امتدت الأيدي إلى عقارب الساعات نستخفها السير، وتسألها العجلة، فتمضي بطيئة ثقيلة وما تتم دورتها المحددة حتى تهن العزائم بعد قوة، وتستسلم الأجسام الفتية إلى الضعف والإعياء.
ولقد بينت في العام الماضي على صفحات الرسالة كيف وقف فريق من الأدباء موقف العداء الصريح من هذا الشهر الكريم فأوسعوه ما لا طاقة له باحتماله من الذم والقدح، وأريد اليوم أن ارفه عن القراء بحديث قوم اخلصوا لبطونهم واسترسلوا مع شهواتهم فهم يتفقدون الطعام في كل زمان ومكان، حتى إذا اشتموا رائحته سقطوا عليه كالضواري الفاتكة، وما اجمل أن نشيد بذكراهم في هذا الآونة، لنعتاض عن الطعام بالحديث عن أبطاله الأفذاذ وفرسانه المغاوير.
وإن تك قد منعت لقاء ليلى ... ففي أخبارها أرج يفوح
ونحب أن نعلن أن التفتن في المأكل والمشرب ليس مذمة تشين صاحبها، فقد أباح الله لنا أن نأكل من الطيبات ما لذ وراق (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) كما حرص عز وجل على أن يسهب في غير موضع من القرآن في وصف ما بالجنة من فاكهة ولحم طير وخمر ولبن وعسل، لما يعلمه جل ذكره من لهفة ابن آدم على الطعام، وتطلعه إليه في شوق وانكباب.
ونحن نرى رجال الصوفية وهم المثل الأعلى في التقشف والزهد لا يتحرجون من الطعام الكثير متى وجدوه سمينا فقد كان عمر بن الفارض رضى الله عنه بطينا سمينا يأكل ويأكل حتى يلفت إليه الأنظار وكأن إبراهيم بن ادهم يتفق معه في مذهبه، فقد دفع إلى بعض إخوانه دراهم عديدة وقال: خذ لنا بهذه زبدا وخبزا وعسلا. فقال يا أبا إسحاق: بهذا كله؟ فقال إبراهيم ابن ادهم: ويحك، إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر