. . . كل شيء في هذا العالم محاكاة، والفن هو أكثر الأشياء محاكاة للطبيعة. والشعر هو أسمى أنواع الفنون، لأنه لا يعطينا الصوت فقط كما تفعل الموسيقى، أو الشكل فقط كما يفعل النحت، أو اللون فقط كما يفعل التصوير، ولكنه يمزج هذه كلها ويقدم لنا صورة حية تؤثر في الحواس كأنها الحقيقة بعينها، بل ربما كانت أكثر حقيقة من الحقيقة ذاتها، لأن الشيء الذي لا نراه إلا بالعين يكون خارجا عنا ولا يقع تحت إدراكنا، ولكن عندما يصفه شاعر موهوب تراه وتشعر به ايضا، وتقف على ما دق وصغر من كنهه الدفين. بل قد يتفتح هذا الشيء من تلقاء نفسه عند ما تسلط عليه عين شاعر نافذة فتكشف عن دخائله في غير تستر ولا استخفاء
. . ولكن الشاعر لا يحاكي ما يراه من مظاهر الطبيعة ومناظرها كما يحاكيها الرجل العادي، بل هو لا ينظر إليها نظرة سطحية ساذجة كتلك التي يلقيها الرجل العادي، ولكن نظرة الشاعر أوسع وأشمل، لأنه يعيش في عالم أوسع وأشمل وأعمق من عالمنا، وينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء ولها. بل إن أذن الشاعر أكثر موسيقية وحساسية من أذن الرجل العادي لأنه يشعر ويسمع كل ما يحيط به من عالم الحس والموسيقى، ويتبين أنغامه ويستمع أصواته المتوافقة الجميلة. فهو وحده الذي يستطيع أن ينفذ إلى قلب هذا العالم الذي يهتز دائماً بأنغام موسيقية متزنة، وهو وحده الذي يمكنه أن يفصح عن هذا الجمال الموسيقي في صوت قوي جذاب، لأن صوت الشاعر أقدر الأصوات وأصلحها لأداء هذه المهمة السامية الجليلة
فقد يقف إنسان على صخرة عالية وينظر إلى البحر الذي أمامه فيراه يتحرك ثم يصطفق ثم يعلو ثم يفيض ثم يهتز ثم يلمع فلا تهيج فيه هذه الصور الجميلة المتتابعة شعوراً ولا تهز منه قلباً، ولعله لا يفطن إلى هذه التغيرات السريعة المتعاقبة، ولا يفقه لهذه الحركات والتموجات المائية جمالاً، ولكن هذه الصور المتحركة الجميلة لا تمضي دون أن تثير في الشاعر نوعاً من الإحساس العميق القوي فتدفعه إلى تحريك اللسان، كما حركت لسان تنيسون من قبل فقال:(إن البحر المتجعد يدلف تحته) أو كما حركت لسان بيرون في