إنه لمن غير المستصعب والمستغرب أن يقيم رجل العصبية دولة بين أهله وعشيرته، ولكن أن يخرج رجل وحيد ينحدر من سلالة في أواسط آسيا، فيؤسس ملكا عريضاً يضم مصر والشام والثغور والعواصم، ويسيطر بذكائه وفطنته فيقود، وينتصر، وتخضع له الخاصة والعامة، وتدين له الرقاب ويقارع أكبر سلطة شرعية، ذلك أمر لا يتم إلا لرجل قد امتاز عن كافة الناس وخصته العناية بصفات من الأخلاق والمزايا النفسية لا تتوفر في غيره
ويذكرني ذلك بما كتبه أحد مفكري الغرب عن عظماء الرجال في القرن العشرين إذ قال: إن هناك قوات جامحة من قوى الطبيعة تسبح في فضاء هذا الكون، فتصيب الرجل العظيم الذي هيأته العناية لدور فاصل في تاريخ الإنسانية، فتراه قد استيقظ إذ لمسته وأفاق فقبض على هذه القوى بكلتا يديه، فدانت له الجماعات وخضعت لمشيئته، فإذا هو على رأسها يسخر هذه القوى ويدفعها إلى الأمام فيغير مجرى الحوادث ويكتب التاريخ كما يشاء، ذلكم هو أبو العباس أحمد بن طولون، رجل من عظماء التاريخ العربي ملك مصر وقاد وانتصر
ولسنا في موضوع الحديث عنه ولا عن أعماله لنؤرخ له، وإنما نحن في مقام التعريف لذلك الرجل الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وإذا كان لي أن أختم هذه الكلمة وما أصعب على النفس ختمها فما لي سوى ترديد قول شوقي في شعره الخالد عن الزعيم مصطفى كمال إذ ينطبق على أميرنا ابن طولون:
هو ركن مملكة وحائط دولة ... وقريع شهباء وكبش نطاح
وأنتقل الآن إلى الجزء الثاني من هذه المؤانسة فأحدثكم عن زيارتي لجامع ابن طولون
كان ذلك في خريف العام الماضي، حينما حللت بالقاهرة المعزية، وكان وقت الأصيل حينما توجهت إلى جامع ابن طولون وارتقبت ذلك لأرى أثر أشعة الشمس وقت غروبها،