وما تلقيه من روعة، على منظر القاهرة، فإن رؤية مآذنها العالية وقباب مساجدها التي تعد بالمئات مما يدخل في قلبي رهبةً وإحساساً فائضاً وحنيناً إلى الماضي وعوداً إليه
ولما صعدت إلى قمة المنارة ونظرت إلى أطراف المدينة من مشهد السيدة نفيسة والإمام الشافعي، إلى القلعة فالسلطان حسن والرفاعي، ثم إلى جامع الجاولي حيث أعجبني هذا التناسق البديع الفائق الحد الذي يبدو بالنظر إلى القبتين المتجاورتين إذ هما قطعتان من قطع الفن العربي الخالد
ولا أحدثك عن الذكريات التي غمرتني ساعتئذ وإنما تساءلت كيف حفظت العاصمة كل هذا التراث العربي العظيم؟ وكيف خرج من كل أدوار التاريخ خالداً، وهو يدافع المحن ويسمو على طوفان الحوادث
ولا بأس من إيراد حديث دار مع سيدة من كبريات سيدات الغرب، وقت أن نزلت من المنارة واتجهت إلى صحن الجامع، فقد كانت جالسة على كرسي فحيتني أحسن تحية، ثم قالت لي كالمعاتبة لغيري:
(متى بلغ اهتمامكم بآثاركم العربية هذا الحد حتى أتيت من بيروت لتقضي إجازتك السنوية، ووقت راحتك في منادمة أطلال الماضي وما درس من آثاره؟)
قلت: بلى أحن إلى هذه الجدران، وأعرف نقوشها، وهذه المئذنة والمحاريب وهذا المنبر الذي وضعه حسام الدين لاشين، وما شعرت يوماً بأني غريب عنها، بل هي عندي صورة من صور الماضي الباقي الذي يفيض حياة، ويلازم فكري، واستمد منه قوة على قوة، وأسير في هداه، وأستعير منه الحجة لأقرع بها الحجة. . .
ولما تركتها متجهاً إلى الأروقة قلت يا لله! إن المساجد له، وهي مع ذلك تعلو علواً كبيراً، ليغمرها العز والسؤدد والمجد ثم تهبط إلى التدهور والتفكك والنسيان حتى يقيض الله لها من ينتشلها من وهدتها. فالنتعرف إلى بعض الشيء من عظمة هذه الجدران. . .
لقد حمل هذا الثرى الذي أسير عليه ابن طولون وملكه، وطالما ازدحم هذا الصحن بالأمراء والجند والعامة، ولو نطقت هذه الجدران لحدثتنا حديث رجال الفقه والتفسير والحديث الذين اجتمعوا هنا لسنين خلت. ولأعادت علينا آيات الكتاب الكريم التي رتلت أصوات المؤذنين والشيوخ والقراء التي ذهبت في أعماق الماضي البعيد. أين صناديق