رب رجل واسع العلم، بحر لا يزاحم، وهو على ذلك قصر العقل مضلل الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا ليقدم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه فينقضه نقض الغزل.
ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرأي فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغريه عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر ثم يغالي ثم يعنف ثم يستكبر. . . ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه.
فمن ذلك أني قرأت في عدد مجلة (المصور) ١٠١٥ بتاريخ ٢٩ ربيع الأول سنة ١٣٦٣ حديثاً لصاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا عن (الإسلام والحروف العربية) فرأيته يفتتح حديثه بهذه الكلمة، إذ يقول لسائله:
(أني لا أعني نفسي البتة بالاطلاع على ما قد يقال من هذا الهراء الذي هو أهون عليّ من الغبار الذي يمس ردائي وحذائي، فما بالك أنت تهتم بما لا أكترث له؟)
وعبد العزيز فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون، وكنا نظنه رجلاً محكم العقل من جميع نواحيه، لا يتدهور إلى ما ليس له به عهد، ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال ما قال عن الحروف العربية في المجمع، ونشرت الصحف قوله ورأيه، قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعود إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصاً لخدمة العربية، فإن يكن في رأيه شيء من الصواب فسيحقق الجدل الذي يدور بينه وبين الناس فضيلة رأيه على الآراء، وإن يكن أخطأ فهو خليق أن يرجع إلى صواب الناس غير معاند ولا لجوج
كان هذا ظننا فيه، فلما قرأت فاتحة حديثه التي رويتها قبل، علمت أن الرجل لن يستفيق،