للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من خلال التاريخ]

بَّناءون مَنْسيُّون في تاريخ الإمبراطورية البريطانية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تقابل الإمبراطورية البريطانية اليوم محنة قاسية، هي شر ما ابتليت به في تاريخها. ولا نستطيع أن نسبق الحوادث، أو نحكم على المستقبل، فإن في ذلك رجماً بالغيب ورمياً بالمجهول، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه الإمبراطورية الواسعة الأطراف تتماسك على المحن وتزداد صلابة على الحوادث؛ وإذا كان في الماضي والحاضر دلالة على الآتي وعنوانٌ على المستقبل، فإن ماضي الإمبراطورية وحاضرها يبشران بمستقبل تعود فيه الأمور إلى قرارها، وترجع الأحوال إلى نصابها

ولم يسبق في تاريخ البشرية الحافل ومعرضها المملوء بالحوادث الجسام والأحداث العظام أن تجمع الملمات والظروف القاسية قرابة خمسمائة ألف ألف (٥٠٠مليون) من أناس يختلفون في العقيدة، ويختلفون في لغاتهم وألسنتهم، ويختلفون في ألوانهم، فتراهم جميعاً صفاً واحداً وبناء متماسكاً: تؤلف المصالح المشتركة والعواطف المتحدة بينهم

ولقد قامت في التاريخ إمبراطوريات عظيمة: كالإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية المصرية القديمة، والإمبراطورية الإسلامية؛ ولكنها جميعاً انتابها ما ينتاب الكائنات: فطويت أخبارها وضاعت مقومات وجودها، ولم يبق إلا ذكر يتردد في أسفار التاريخ

ولكل إمبراطورية بناءون اشتركوا في بنائها ووضعوا فيها اللبنة فوق اللبنة، والحجر فوق الحجر، حتى ارتفع البناء واستطال في الجو؛ وبعض هؤلاء البناءين مشهورون معروفون تردد الألسنة ذكرهم، وتقترن أعلامهم دائماً باسم الإمبراطورية التي أقاموا بناءها ورفعوا لواءها؛ وبعض هؤلاء البناءين منسيون مغمورون لا يهتف باسمهم لسان ولا يتردد ذكرهم على فم، على حين تبقى أعمالهم خالدة دائمة، لا تنتسب إلى صانع ولا تنتمي إلى مؤسس وهؤلاء المنسيون في كل أمة، وفي كل واد، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. ففي بنائي الأمم منسيون، وفي العلماء مغمورون وفي الشعراء والأدباء مطويون مقبورون

وليس من الحق أن يطول الأمد على نسيان هؤلاء الناس، وليس من العدل أن تظل أسماؤهم مكتوبة وحياتهم غامضة؛ وليس مما يشرف الإنسانية أن الجور يجري على

<<  <  ج:
ص:  >  >>