للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

صدقة ترفض

الصباح بارد الأنفاس يلذع نسيمه الوجوه وينفذ إلى العظم، والأرض مبتلة من أثر مطر خفيف، وليس خارج داره بل ليس خارج فراشه إلا من يغدو إلى عمله فما يملك أن يتراخى أو يقعد.

ووقفت أنتظر إحدى السيارات العامة، وأنقل بصري في وجوه السابلة أرى كيف يسعى الناس سعيهم في سبيل العيش، وكيف تقوم الحياة في المدينة على كدح من لا يأبه لهم، وأتبين ذلك الجد المحبوب في خطوات الناس وفي صفحات وجوههم الصابرة الشاحبة التي محا الإشراق منا الغلاء والكدح. . .

وانعطف أحد بائعي اللبن على عجلته المثقلة بصفائحه من أحد الشوارع وهو غلام في نحو الثامنة عشرة، فما كاد يستقيم حيث أقف حتى أنزلقت به العجلة فوقعت على الأرض، وهوى المسكين على جنبه واللبن يتدفق فيجري على الأسفلت دفاقاً. . .

وخف إليه بعض السابلة فأنهضوه ورفعوا العجلة يحفظون ما بقي من اللبن، وراح بعضهم يحوقل، وراح البعض يمص شفتيه يظهر الأسف، ولكن لم يخل الحال من ماجنين راحوا يصيحون من هنا ومن هناك: عليه ميه. . . عليه ميه! وأخذوا يضحكون في غير مبالاة كأنما يشتمون من الغلام شماتة الواثق من أنه أضاف إلى اللبن ماء. . .

وذهل الغلام عن نفسه لحظة ثم نظر إلى اللبن يجري بين يديه ومن خلفه، فما أحسبه والله لو أنه كان ينظر إلى دمه يجري هكذا على الأرض ما كان يبدو أكثر مما بدا جزعاً وهلعاً. . . لقد كانت ترتعد فرائص المسكين كأن بهما زلزلة، وكأن مفاصله لا تقوى على حمله، وكان يمسك العجلة بيد مرتجفة ويلطم وجهه بالأخرى وفي هذا الوجه صفرة كصفرة الموتى. . . ثم كان يصرخ بين الفينة والفينة صرخة أشبه بصرخة الثاكلة تزفر النار على كبدها ويرمض الحزن مهجتها، وكان يلفظ لفظة من ألفاظ الثكالى يعبر بها عن ألمه. . .

ورأيتني على رغمي أمام صورة من صور الفزع الإنساني اشمئز منها خاطري وتحرك لها قلبي، ففيها مع الخوف الذلة والمكنة وما أثقل على قلبي رؤية ضعيف في موقف الضعف فما بالك بموقف الفجيعة والخوف.

<<  <  ج:
ص:  >  >>