للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في موسم الحج:]

أبو نواس يحج!

للشيخ محمد رجب البيومي.

شغل الحسن بن هانئ اذهان معاصريه، فقد كانت سيرته ذائعة شائعة يتناولها الظرفاء متندرين معجبين، ويتناقلها الزهاد لائمين ناقمين، وهو لا يفتأ يضرم النار ويشعل الوقود بما ينظم من شعر ما جن يتردد صداه في كل ناحية، ويترنم به الحداة في كل ركب. وكثيراً ما يشفع القول بالعمل فيلجأ إلى الديارات الخليعة ويتصدر الأندية الداعرة، يعب الخمر وينادم المرد، ويقود الأسراب الطائرة إلى منابع السكر، حيث تتجاوب الأوتار، وتدور الكؤوس، ويترأس إبليس الحفل، فيفتح باب الغواية على مصراعيه، ويوسوس لكل ما جن بما يسئ المروءة، ويغضب الخلق الكريم.

وشاعر هذه نشأته وسيرته لا يمكن أن يفكر يوماً من الأيام في الحج، بل ربما نفر منه ودعا إلى حربه، حيث لا يعود عليه بفائدة مما يبتغيه. وإذا كان شعراء الغزل في الدولة الأموية قد وجدوا في هذا الموسم الحافل معرضاً فسيحاً للجمال الفائق، فخفوا إلى التمتع ببدائعه الفاتنة، فإن الحسن لا يجد به مآربه المشتهاة، فهو يناغي المرد الحسان ويهيم بالخمر المعتقة؛ أما أسراب الغيد الطائرة حول البيت العتيق فلم تتمكن شباكها الخاتلة - بعد - من اصطياده، ففيم السير إلى مكة؟ وعلام يتحمل الشاعر في سفره المشاق؟ بل إنه سئل عن موعد حجة فقال مستهتراً كعادته (إذا نفذت لذات بغداد) وهيهات أن تنضب موارده اللهو في دار السلام!

ولكن الثابت في التاريخ - على رغم ما تقدم - أن أبا نؤاس قد حج البيت المكرم فطاف مع الطائفين، ولى مع الملبين، وقد غمره شعور سماوي هيمن على عواطفه فأنطقه بتسابيح خالدة، تستمد نغمها الحلو من قيثارة فاتنة، فكيف تسنى ذلك لأبي نواس؟ وكيف ينبع في الصحراء الموحشة نهر دفاق ملئ؟ سؤال يتطلب رداً مقنعاً. ولعل الإجابة تظهر في تاريخ الرجل، فقد شاء له حظه العاثر أن يهيم بجارية تمقته وتزدريه، وترسل قذائفها المحرقة فوق رأسه، وهو سليب العقل، طائر الفؤاد، يسير ورائها أني سارت، ويبعث خلفها الرسل يستعطفون منها قلباً جامحاً، لا ينبض برحمة لهالك، ولا يستشعر حناناً لمدنف. ولقد كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>