للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا عجيباً منه أي عجيب، فقد أشتهر طيلة حياته بمجانية الغيد، فكيف يتورط إذن في هذا الحب الجديد؟

كانت (جنان) جارية عبد الوهاب الثقفي ساحرة فاتنة، ذات وجه أزهر صبيح، إذا تأملته تعاظمك الإقرار أنه من البشر - كما يقول الحسن - تجمع إلى دل الحديث وسحر الملامح ذكاء وفاداً، وفهما عميقاً للشعر الرفيع، ورواية واسعة للأدب، وقد خطرت ذات عشية أمام الحسن فأخذت عقله من مكمنه، ونقشت صورتها في مهجته، فترك عصابته الماجنة، وسار يتعقبها في كل مكان تحل به، فإذا كان في البصرة عرس واجتمعت النساء، خرج يتلمس صاحبته في اهتمام بالغ، فإذا وقعت عينه عليها لم يطق أن يسارقها النظر بعض الوقت، فيخفض رأسه حزيناً باكياً إلى الأرض، ويهيم في آفاق خياله فيعقد موازنة شعرية بين (جنان) وعروس الحفل، وطبيعي أن يحكم بتفوق صاحبته في مضمار الحسن والملاحة، ثم هو لا يكتم ذلك، بل يلعنه على الناس إذ يقول:

شهدت جلوة العروس جنان ... فاستمالت بحبها النظارة

حسبوها العروس حين رأوها ... فإليها دون العروس الإشارة

وإذا قام في البصرة مأتم حزين وهرعت العذاري إليه كعادتهن ترك الشاعر ما يملأ سمعه من النواح والعويل، وأخذ يتلمس صاحبته في موقفها الدامع، ويسبح في آفاق تفكيره، فلا يوازن بينها وبين عذراء ممن شاهدهن كما فعل يوم العرس، بل يجب الموازنة بينه وبين الميت الفقيد. ولا غرو فقد قتله الحب فهو جدير بأن تبكي عليه صاحبته كما تبكي الآن على الراحل النازح، ثم هو يبلغها ذلك في شعر رقيق هادئ. اسمعه إذ يقول.

يا قمراً أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذرى الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب

لا تبكي ميتاً حل في حفرة ... وأبك قتيلاً لك بالباب

وكانت (جنان) تعتقد خاطئة أن أبا نواس غير صادق في حبه لأنها تعرف عنه خلاصته وادعاءه، فكانت تسبه وتؤذيه وتطعنه في رجولته، وتنال من كرامته كل منال، ولم تصف له غير حقبة يسيرة مرت في حياة العاشق مرور الطيف، وتركت وراءها طوفاناً جارفاً من السهد والدمع. وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤدب الحسن بهذا الحب، فقد خلع كبرياءه

<<  <  ج:
ص:  >  >>