الرحلة هي النقلة من مكان إلى آخر. وقد تكون فردية لا يحتاج الإنسان فيها إلا إلى راحلته وهمامة نفسه ومشدود رحله. وقد تكون جماعية يخرج فيها الجم الغفير من الناس لغرض من الأغراض أو باعث من البواعث
وأكثر الرحلات يأتي طوع الإرادة ووليد المشيئة من غير اضطرار ولا قسر. وبعضها يكون وليد ظروف طارئة أو مناسبات قاهرة، تخرج المرء أو الجماعة عن الموطن الأول، أو ترمي به بعيداً عن مراتع صباه وملاعب شبابه، إلى وادٍ سحيق، أو مطرح بعيد. . .
ومن الرحلات ما يغير أوضاع التاريخ ويفرض على العالم نظاماً جديداً، فيقرب بعيداً، أو يبعد قريباً، أو يصل بين شعب وشعب، أو يربط بين جنس وجنس، فتظهر لغات جديدة، وثقافات جديدة. ومن هذا النوع رحلة القحطانيين من الجنوب إلى الشمال؛ أو إذا شئت التدقيق من اليمن إلى الحجاز. وهي رحلة جماعية كبيرة، وسَّمها إذا شئت هجرة، وسمِّها إذا أردت انتقالاً. ولكنها على كل حال أخرجت القحطانيين من ديارهم ونشرتهم في أنحاء الجزيرة العربية وأخرجت منهم بطوناً كثيرة وقبائل كثيرة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأدب
ولقد كانت هذه الرحلة بنت القهر ووليدة الاضطرار، وسببها أن سيل العرم فاض وبلغ الزبى فاكتسح السدود، ورمى بالحواجز، وغمر الأرض، وبُدِّل السبئيون حالاً بحال، فارتحلوا إلى الشمال - ولولا هذه الرحلة الجامعة ما قام المناذرة على حدود الفرس، ولا استقام ملك الغسانيين على حدود بلاد الروم
ومن سوء حظ التاريخ والأدب أنه لم يهتم بهذه الرحلة واحد من المهاجرين المشتركين فيها ولم يدون أبناءها ولم يصف مشاهدها وكل ما وصل إلينا منها أنباء قليلة بعضها من مصادر دينية، وبعضها يعتمد على الرواية والأخبار. ولو اهتم بها أحد ممن حثوا مطاياها أو شدوا رحالها لخرج لنا سفر عظيم من أسفار الرحلات الخالدة.