للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أمية المتعلمين]

للدكتور محمد مندور

نحن في حاجة إلى أن نكافح ببلادنا ثلاثة أنواع من الأمية: الأمية الأبجدية والأمية العقلية وأمية المتعلمين. ولابد إذا أريد لهذا البلد الصلاح من أن نكافح الأنواع الثلاثة معا، وساقا بساق في شبه ثورة اجتماعية تجند لها جميع القوى قسراً

فأما الأمية الأبجدية فتلك في الحقيقة أهونها، لأن تعليم فك الخط ليس بالأمر العسير، وإن تكن هناك ظاهرة تستحق النظر. فلقد اتفق لكاتب هذه السطور أن رأى صبية التعليم الإلزامي يطالعون دون أن يخطر ببالهم أن المطالعة إنما تكون لفهم ما نطالع أو محاولة ذلك الفهم. وأنا بعد لا أدري سر هذه الغفلة، وإن كنت أميل إلى التفاؤل، إذ يخيل إلي أن محو الأمية الأبجدية عند الأطفال كسب حقيقي، فهم إذا كانوا عاجزين عن أن يستفيدوا بما تعلموا من مبادئ القراءة والكتابة فلا أظن ذلك مانعا لهم عند الكبر وتفتح النفس من أن يهتدوا إلى أن القراءة إنما جعلت للفهم والإلمام بما نقرأ. وأكبر الظن أن هذه الظاهرة لن تحدث عند تعليم الكبار الذي تعتزمه اليوم حكومتنا، فالشخص الكبير لابد من أن يتحرك تفكيره بما يقرأ، وبخاصة إذا اختير له من القراءات ما يثير اهتمامه الشخصي، ويلابس ظروف حياته فيشعره بفائدة ما يقرأ. وسوف يزداد شغفا إلى إجادة القراءة بفضل ما يلقن من مبادئ الثقافة الشعبية التي تشق الحجب عن بصيرته، فيحس بآفاق جديدة تنتشر بها حياته، حتى لكأنك تفك عنه أغلالاً، سيدرك عندئذ أنها كانت توثقه على غير وعي منه، وإذا به يسعى إلى أن يتمكن من الوسيلة التي حررته. ومن هنا تظهر الصلة المتينة القائمة بين مكافحة الأمية الأبجدية والأمية العقلية، وتأثير إحداهما في إنجاح الأخرى

والأمية العقلية محوها لا ريب أشق وأبعد مدى من محو الأمية ألأبجدية، وإن خيل إلينا عكس ذلك، فقد يقول قائل: إن باستطاعتك أن تجمع الأميين وتخاطبهم بلغتهم العامية عما تريد أن يعلموا وإذا بك تبدد الجهل من عقولهم، وهذا قول لا يصح إلا في ظاهره. فقديما قال مفكرو الإغريق: (إن تثقيف الأطفال - والأميون في هذا حكمهم حكم الأطفال - لا يستطيعه غير الفلاسفة) والسبب في ذلك بين، فالمعلم لابد له من خيال قوي ليستطيع أن يخرج عن نفسه ليحاذي عقلية من يخاطب، ثم إنه ليس أشق من تبسيط المعرفة، وذلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>