شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء؟ ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلاً وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأت في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهَزَجٌ، وفي مشيتها تبختر لا يقل، وميسْ ليس من الاختيال. وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذنٍ، وتستر أذناً. ولا تثبته بالأمشاط أو الدبايبس، ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بإصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنتُ لا أراها تبتسم إلا خيل إلى أنها ترى حلماً يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، واجد حر النار في كفى
وكان بيتي في ذلك الوقت على (تخوم العالمين) وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني. وكان الماء كثيراً وثمنه زهيداً، لا يتجاوز خمسة عشر قرشاً في الشهر بالغاً ما بلغ ما أجريت منه، فكنتُ آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرةً أو اثنتين أو عشراً - كما تشاء. فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها. ولم تكن هي الوحيدة التي تستسقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلاً وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحياناً، أو تتولى عني عزق الأرض أو بذر الحب أو سقي الزرع، وإجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله واخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلاً:
(ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل)
فأقول:(ملوخية؟ لقد طرحتُ هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟)
فتقول:(كلا، هذه ملوخية وقد بلغ نبتها المدى، فاختضرها وإلا فسدت)
فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها، واعتمد على ذاكرتي والذكاء فيختلط علي الأمر، وأروح أظنني زرعت جزراً فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي البزر ولا أعني بإعداد