يا عجباً! وي كأن الحياة تأبى إلا أن تسخر منك - يا صاحبي - فتفسح لي مكاناً في زاوية دارك لأكتب قصة حياتك بين جدران حجرتك، أستلهم الوحي مما كان يدور هناك من عبث وسخف، وألتقط المعاني مما كان يشرق به المكان من حماقة وطيش.
خَّبرني، يا صاحبي، أي لذة استشعرتها في الكأس الأول عند أول رشفة تجرعتها من قدح الخمر؟ لا تدع قلبي يرثي لحماقتك وأنت ما تزال فتى في عنفوان العمر، ولا تذر النفس تساقط حسرات لجهلك وأنت موظف كبير تدر عليك الوظيفة ما يكفيك أنت وزوجك وأولادك. آه، يا صاحبي، لو ثاب عقلك فرجعت من غيك! إذن لأصبحت - كما عرفتك منذ سنوات - رجلاً طيب النفس هادئ الطبع رضي الخلق.
لقد عرفتك يا صاحبي، بعد أن تخرجت في كلية التجارة، شاباً كثير الدأب والنشاط شديد القوة مفتول العضل وسيم الطلعة جميل السمت، ولمست فيك توقد الذكاء ورجحان العقل وقوة الحجة، ثم ضربت بيني وبينك نوازع الحياة ومشاغل الوظيفة فما تلاقينا منذ سنوات.
أما أنت فقد تلقفتك الحياة لتلقي بك بين براثن الشهوة وتقذف بك بين براثن الشر. وقال لك شيطانك: لا عليك إن أنت ألقيت بدلوك في الدلاء فتكون قد تذوقت رحيق الحياة ورشفت رضاب اللذة واستمتعت بجمال السعادة.
إن الحياء الذي دفعك عن النساء هو الذي دفعك لتعب الكأس الأولى حتى الثمالة. وسرت حميا الخمر - أول الأمر - في مفاصلك فأحسست بالنشوة تتدفق في عروقك فتشيع المرح في أعصابك والطرب في قلبك. وخيل إليك أن في الخمر سحراً تتجاب له هموم النفس وتنزاح أعباء الروح، فطابت لها خواطرك وهدأت جائشتك: لا ضير علي إن أنا اختلست من عمري فترات أقضيها بين رفاق الحانة أسعد بحديثهم وهو طلي وأشاطرهم الكأس وهي لذيذة، وأنا أجد فيها شفاء من رهق الحياة ودواء من هموم العيش وجلاء من صدأ العقل. ولكن الخمر جذبتك إليها في شدة وعنف فما استطعت أن تنصرف عنها. يا لحماقتك يا من تضع قدميك عند حافة الهاوية ثم تطمع أن ترتد عنها قبل أن تبلغ القرار.