كان رأي الباحثين مجمعاً منذ مدة على أن أولى الاتصالات الثقافية المهمة بين الإسلام والفرنك كانت نتيجة الحروب الصليبية. وفي الحق أن الحروب الصليبية هي الفرصة الأولى التي اجتمع فيها الشرق العربي بالغرب المسيحي اجتماعاً قريباً، وجعلت من جراء ذلك مبادلات ثقافية؛ غير أن الدراسات التاريخية المتأخرة أبانت أن هذه المبادلات كانت محدودة من ناحيتي المجال والمفعول؛ وهو أمر يجب أن يكون منتظراً بسبب سيطرة الناحية العسكرية في ذلك الدور. ولقد وصل الفكر العربي عن طريق آخر إلى الغرب بصورة عامة، وإلى إنجلترا بصورة خاصة
لقد دخل العرب المنتصرون إلى أوربا بعد غزوهم شمال أفريقية، واستعمروا منطقتين في حوض البحر الأبيض المتوسط لمدة طويلة هما: أسبانيا وصقلية، وأنشئوا لهم مدينة بالغة التقدم ما لم يكن يوازيه أي تقدم آخر في الأراضي المسيحية في ذلك الحين. ذلك التقدم الذي لم يعجز عن التأثير على معاصريهم من المسيحيين، حتى أنه بعد أن استعاد المسيحيون تلك البلاد ظلت التعاليم العربية مزدهرة مدة طويلة. وكان الملوك المسيحيون يتكلمون العربية، ويؤازرون العلماء العرب، وبقيت الثقافة العربية العالية نافذة في بلاد الفرنك، وأصبح المسيحيون الذين يتكلمون في أسبانيا واسطة مهمة لبسط النفوذ، كما أن اليهود الذين ينطقون بالعربية في أسبانيا وصقلية - والذين كانت لهم لغة عامة هي العبرية - مع مشاركيهم في الدين من الفرنك، كانت لهم يد طولى في نشر الثقافة العربية في الغرب. وينبغي أن نشير في هذا المقام بصفة خاصة إلى الفيلسوف الأسباني اليهودي (إبراهام بن عزرا) من مدينة طليطلة الذي زار لندن في سنتي ١١٥٨ - ١١٥٩، واشتغل بالتعليم هناك مدة؛ كما أن الإنجليزي (توماس براون) ولي القضاء في صقلية، ويذكره