نحن الآن أمام شاعرين قذف بهما إلى غياهب السجن، ورسفا في القيود والأصفاد قدرا من الزمان، فلجأ كلاهما إلى القريض يبثه وجده، ويطارحه أساه!
والسجن رهيب موحش، ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، وكما يفزع الأسد المكبل في قفصه الحديدي، فكذال يفزع الشجاع الصنديد حين يهاجمه الظلام في بقعة لا يراوحها الهراء، وأفزع منه الشاعر المرهف، ذو العاطفة المشبوبة، والوجدان المضطرم، فهو من إحساسه في عذاب أي عذاب وانظر إلى الطائر الغريد يخطف من أيكته الملتفة، ويحبس في الأسلاك المتشابكة، مقصوص الجناح، ثم ابعث عليه الحسرات
ولن نفكر اليوم في سجوننا المستحدثة بالقرن العشرين، فمهما بولغ في إيحاشها وتضييقها، فهي نظيفة محترمة تدرج فيها الشمس، ويمر بها النسيم، وليست كالسجون العباسية التي حبس بها الشاعران اللهيفان، إذ كانت نقمة من نقم الله، فهي لا تحتوي على منافذ - ومقاعد، ولكنها في الغالب سراديب متوغلة ممتدة في أعماق الأرض، يوضع فيها الأحياء كما يدفن الموتى في اللحود، وهي على ظلامها الدامس، حافلة بما يخيف من الأفاعي والهوام، وقد لا يجد السجين من المكان فير ما يسمح له بالجلوس وحده والويل له إن وقف أو سار! بل قد يمكث السجين طيلة نهاره فلا يجيئه السجان غير دقيقة واحدة، يقذف له بفتات الطعام وآسن الشراب، وهو مع ذلك يتلهف على لقائه، إذ هو رسول الأحياء إلى الأموات
وقد قدر لعلي بن الجهم أن يكون نزيل السجون مدة طويلة فانقلب إلى الظلام الموحش، بعد أن نادم المتوكل في قصر الخلافة أمدا طويلا، ونهل من النعيم والمسرة ما لا يقدر بثمن، وجلس على بساط السمر يحتسي الكؤوس ويعابث القيان، وتلك حياة أشبه بالأحلام
لقد كان بن الجهم خبيث اللسان، فاحش الهجاء، وقد تعددت وشايته إلى الخليفة بأصحابه حتى تيقن افتراءه ودسه فعاقبه بالسجن ليرتدع، ونزعه من أفواه البهجة ومطارف النعيم، ونظر الشاعر فإذا ألسنة السوء تلوك حديثه في كل مكان، فتزيد عليه ما يكابد من الغصص