ولا بد أن هذا الأمر كان مقصوداً من الله جلت قدرته وهي بعض صفاته العليا. فالعلماء الذين يتجردون من المادة ويصعدون بأفكارهم إلى أعلى عليين، والصوفيون الذين يحاولون التوحيد بين ذاتهم وذات الله وفنائهم فيها، والفلاسفة الذين ارصدوا أنفسهم في سبيل البحث عن الحق المطلق الذي لا يلمس وليس له زمان. ألم يكن هؤلاء جميعاً يحاولون الوصول من طرق مختلفة، إلى غرض واحد، هو الأشراف الباطني؟ تلك هي نعمة التجرد التي ترد الظلام كما يرده المشعل في الليل، وفي الوقت ذاته يعمي حامله إلا عن نفسه.
ولا يخفى أن النفس العربية نبتت في الصحراء القاحلة - أجل - لقد رأت ذلك النور المتألق في تلك الصحراء التي تحدها بحار من الرمال، ويعلوها أفق لا شائبة فيه حيث يستطيعون حتى في ضوء القمر أن يميزوا بين الظل والنور، بين الأسود والأبيض. ولكنهم قلما يدركون شيئاً من أسباب هذا التطور، ولا يعرفون ما تخفيه لهم الأقدار في رحلاتهم البعيدة وهم يجتازون مفاوز الصحراء، إنهم يستخفون بمظاهر هذا العالم الفاني لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بحياة أطيب وأنقى من تلك التي يعيشونها الآن، وللدار الآخرة خير وأبقى.
لقد راعني جلال الحفلة، فرأيت الرجال يضطجعون على الأرائك المبعثرة في أركان الثوى يتمتعون بلذة التدخين في ظل المصابيح ذات الضوء الشاحب، وعلى الرغم من أن التدخين محرم في الأراضي السعودية فقد ألفيت بعضهم يدخن النارجيلة ويسبح مع دخانها في عالم الخيال.
وقابلني رب الدار بكل بشاشة وترحاب وكذلك بقية الضيوف، وكان السرور يطفح من وجوههم والبشر يتألق على محياهم، وكانت أول تحية سمعتها من صاحبي قوله: